المحطـة الأخيـرة...دعاء لا يهز الكراسي

> سعيد الحريري :

>
سعيد الحريري
سعيد الحريري
عاشت جدتي لأبي عمراً مديدا قد لا أعيشه أنا أو والدي، وتوفيت وهي في التسعينات من عمرها الذي عاشته كله من دون أن تسمح للمستجدات المحلية والدولية بتغيير الثوابت المحيطة بها، فهي مثلاً ظلت إلى آخر يوم في حياتها ترى الزوج لا تربطه بزوجته إلا كوكبة من الأولاد والبنات، وأن دعاة مساواة المرأة بالرجل ما هم إلا رجال متأنثون أو نساء مسترجلات أمضين حياتهن وهن متحيرات بين الأنوثة والرجولة، بسبب قيامهن بالتمرد «الخائب» على أحكام التقاليد والأعراف.

ولأنها (جدتي)، رحمة الله عليها، قد غيبها الموت منذ عدة أعوام عن هذه الدنيا الفانية، فإني لا أجد بدا من أن أذكر هنا واحدا من أهم مناقبها، وهو أنها كانت امرأة متدينة، تقيم الصلاة، ولا تغفل عن فرض واحد من صلاتها، لكنها أيضاً لم تنقطع عن الدعاء عقب كل صلاة على كثير من الزعماء، حيث كنت أسمعها وهي تتمتم بكلمات واضحة، مثلاً (الله يفرجني فيك يوم يا فلان يا بن فلان) وتذكر اسم الزعيم واسم أبيه في قاموس الشتائم التي تحرص ألا تتجاوز حدود رصانتها وهيبتها، أو (إلهي ما يطلع عليك الصبح إلا وجاني خبرك يا فلان يا ابن فلان)، إلى آخر ما في القائمة العربية والعالمية من زعماء.

كانت المرحومة جدتي تكرر دعواتها ولا شيء يتغير فيها إلا اسم الزعيم «المنكوب»، أو نوع الدعاء المقترن به حسب الجرم المقترف ومدى فظاعته، وما إذا كان يفوق غيره من جرائم ارتكبها زعماء آخرون.

واليوم وفي هذا الزمن الرديء، أتذكر تلك الأدعية التي كانت تطلقها جدتي وأربطها بهؤلاء الزعماء «المدعو عليهم» فأكتشف أن أحداً لم يصل خبره بعد عدا «صدام الكبير» وأن معظمهم لم يزل متربعاً على كرسيه لم يهزه دعاء ولم يطله رجاء، ولم يزحزحه غضب ملايين من أبناء شعبه المطحون، ورغم أن رحيل جدتي قد منعها من إضافة أسماء جديدة إلى المستوفين لشروط الدعاء، إلا أن تلك القائمة لم تتقلص فقد بدأت بالآباء وامتدت إلى الأبناء وأبناء الأبناء والأخوة والأشقاء وهكذا. وهنا فجدتي، رحمة الله عليها، إن كانت بيننا الآن، فإنها ستجد متعة لا تضاهيها متعة وهي تضيف إلى قائمة الزعماء المنكوبين عددا آخر من الزعماء الغربيين، وعددا من الزعماء العرب الذين تشارف رئاستهم في بعض الأقطار العربية على نحو ثلاثين عاماً، وهم الآن يتمسكون بالكرسي بكل شراسة.

واضح أن الطغاة يجدون في تعذيب شعوبهم إكسير الحياة، ويأخذون من أعمار المستضعفين التي «تقصف» على ألسنة العباد في اليوم آلاف المرات أعماراً جديدة يضيفونها إلى أعمارهم وأعمار الجلادين، والمجرمين، والمستبدين أجمعين.

مضت جدتي بأدعيتها الخائبة، ولم تورثني كحفيد لها، سوى تلك الأدعية التي أظنني سأمضي بها أيضاً مع غيري من المستضعفين، بينما الطغاة والمستبدون من الزعماء، وحدهم باقون.. متجددون. كندا

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى