قلبي على ولدي

> أ. د. هادي نهر :

> (إلى الأخوة المعنيين في وزارة التربية الموقرة لمناسبة امتحانات البكالوريا الثانوية)لم أكن أرتضي منك - يا ولدي - أيّ تذمّر أو ضجر وصل بك إلى حد اليأس، وأنت تشكو صعوبة مقررات اللغة العربية، والتربية الإسلامية وتشعب موادهما واصطلاحاتهما حتى نظرتُ في تلك المقررات، وأنا لي في ميدان اللغة والأدب والفقه أشواط أستطيع بها الحكم، والتمييز، والتقييم!

لقد هالني- يا ولدي - ما رأيت في كتاب النحو، فهناك واحد وثلاثون موضوعاً لم تترك لأصحاب الاختصاص وجهابذة النحو شيئاً، وأنا أعرف يا ولدي ميولك العلمية البحتة، ولهذا شجعتك على اختيار (الفرع العلمي) وولولوج طريقه، ولم أكن أدري، ولم تكن تدري أنك ستدرس في هذا الفرع (العلمي) ما يكفي أن تكون به - لو علمته - أحد نُحاتنا المحدثين، فقد ألقوا بك - يا ولدي - في حومة: المفاعيل، وأحكام المنصوبات، وعُقد الاستثناء، الكامل، والمفرغ، والمقطوع، حتى (قطعوك) عن الفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والرياضيات، ثم تاهوا بك في أساليب (النداء، والندبة، والاستغاثة، والاختصاص، والنعت، والبدل، والتوكيد، والاستفهام، ثم الجمل التي لها محل من الإعراب والتي لا محل لها من الإعراب) وحين لم يبق لذهنك يا ولدي محلٌّ للفكر، دخلوا بك عالم (النسب) لعلك تبحث عن (هويتك) العلمية المهدورة، و(تكتشف في المعجمات العربية) معنى اسمك، وفرعك..! أما مقررات الأدب والنقد فانطلقوا بك من العصر (المملوكي والعثماني) ليمتلكوا عليك فكرك وتخصصك العلمي، ثم قفزوا بك إلى شاعرنا الكبير المقالح الذي يستفز الروح، والمشاعر، وكل ما في الإنسان من قيم ومثل الإنسان. دخلوا بك يا ولدي عوالم الرومانسية فحلمتَ، وعوالم الكلاسيكية فضجرتَ، وعوالم الواقعية فألفيت نفسك بلا أحلام، ولا (واقعية)، ثم جاءوا بك إلى رحاب (الشكل والمضمون) لعلك تبحث عن صورتك الضائعة، أو المضيّعة ومضمون اختصاصك الذي تناسوه، ولكي يحكموا أمرك - يا ولدي - دخلوا بك في (التجربة الشعرية) لتكون بعدها: (قصة، أو مسرحية) وقد صنع اليوم والدك (مقالة) فيك وفي محنتك!

وما أوسع ما أثقلوا به - يا ولدي - كاهلك من دروس: (الفقة، والشرائع، والحديث، والسيرة، والتوحيد) في درس التربية الإسلامية، وكأنهم يريدون أن (يصنعوا) فقهياً معاصراً يلم أشتات الفقه على المذاهب الأربعة، أو الخمسة، أو الستة، أو ما شاء الله. ويكفي من العلم بالدين ما أنت عليه من استقامة، وورع وتربية على القرآن وسنة رسول الله [ الذي يقول فينا: «والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا» هكذا جعل رسولنا الكريم من الحب طريقاً إلى الإيمان وطريقاً إلى الجنة.

أنا لا أريدك يا ولدي، ولا أنت تريد أن تكون ناقداً، أو مسرحياً، أو أديباً مفلساً كأبيك! ولا أريدك أن تكون محدثاً، أو فقيهاً، أو مفسّراً، فلهذه العلوم الشريفة رجالها وحماتها. أردتك - يا ولدي - طبيباً تداوي أبناء شعبك، أو مهندساً في جيش العاملين على نهوض الوطن، أو عالماً في عصر العلم، والتحدي، والعولمة الفاتكة.

إذن: لتتوحد مغامرتك يا ولدي مع (البرامج والمقررات المتخمة بالحشو) وكن صابراً في طريق هذه المغامرة لعلّك تتخطى أسوار الصعاب من أجل مستقبلك، وهو من بعض مستقبل الوطن.

لا تخف - يا ولدي - من (مناطق الرعب) الكامنة في أكثر دروسك في اللغة العربية التي أنهت زوابعها، وسعتها، وإطنابها قواك الذهنية، ما دمت قد تعلمت عوالم (النداء) وأحكامه الإعرابية، وكيف تنادي (القريب) و(البعيد) أو (المتوسط) بينهما، وستنادي، وقد لا يُستجاب النداء، فدونك - يا ولدي - ما علموك إياه من أحكام (الاستغاثة) للتخلّص من ورطة، أو طلب العون على الشدّة، وحين لا مغيث فدونك (الندبة) وقد قرّروها عليكم فتفجّع بها - يا ولدي- على هواك، و(توجع) بها على ما تشتهي وتريد، لعلّ الذين أنت أمانة في أعناقهم ممن سيصوغون الأسئلة الامتحانية يكونون: يسراً، وضوءاً يقود أبناء الوطن جميعاً إلى النجاح والتفوّق.

إنني - في الوقت الذي أضع فيه قلبي على ولدي خوفاً، وتألماً - أتمنى أن تكون الأسئلة ليست ماحقة، تسأل عن الغوامض، والحشو، وما مات من اللغة، وغير ذلك مما هو نافع لأهل العلم والتخصّص، لتنتهي بنا إلى فراغ الأشياء، وإلى قناعات قديمة ملساء، تبحث عن إجابات مسبقة، لموضوعات معقدة مستهلكة، وإنما أسئلة تقيم جسوراً بين الطالب وما عَلِمَ، وفهم من موضوعات يتماهى بها إنساناً، ورؤية، واستجابة، وممارسة، وليست أسئلة تستفهم عن (الكم المدروخ) والكم (المحشو) في الأذهان حشواً.

أتمنى - يا ولدي - ألاّ تكون أسئلة البكالوريا - وفي كل الموضوعات العلمية والأدبية - طلاسم، وألغازاً، وكتاباً لا نعيه، تسأل عن الجزئي، والشكلي، والمقطوع عن كل علاقة بقدرة الذهن في هذه المرحلة العمرية على الاستيعاب، والتجلّي، وما أعمق الأسئلة التي ستهبط على طلبتنا - إن شاء الله - حضوراً واعياً بعيداً عن أية (شفرات قاتمة)، أو مراوغة محيّرة، أو أي دخيل يعيق الفهم، ويقطع أسباب الفوز والنجاح.فلننتظر!!

جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى