أيــام الأيــام...المسؤول مليونير والمواطن مديونير

> محمد عبدالله باشراحيل:

>
محمد عبدالله باشراحيل
محمد عبدالله باشراحيل
التقيت في أحد المؤتمرات الدولية الخاصة بالتضخم وأساليب احتسابه خارج قاعة الاجتماعات، خبيراً مشاركاً قدم نفسه لي، فقدمت نفسي له، ثم بدأ يتحدث عن آرائه في العولمة وأنه ليس من أنصارها ويعتقد أنها ستضر بمصالح الفقراء بدرجة أساسية، وفي حالة تطبيقها في الدول النامية ستحدث تضخماً كبيراً سيكون المتضرر الأكبر فيه الشريحة الكبرى من عامة الناس، أما المستفيدة فهي رؤوس الأموال والشركات الكبيرة أكانت أجنبية أو وطنية، واستطرد في الحديث واستمرينا في المناقشة إلى أن وصلنا إلى الوطن ومفهومه، فقلت له من شعاراتنا وطن لا نحميه لا نستحقه، فرد علي الوطن الذي يوفر لي الأمان والعيش بكرامة فيه، أما إذا كان الحال عكس ذلك فلا يشرفني الانتماء لهذا الوطن، فقلت له إنني أحترم رأيك ولكني أخالفك الرأي، فالأوطان في تراث أمتنا هي رمز الشرف والكرامة ويجب ألا تُترك لمعكري الأمن ولا للمتسببين في نكد العيش، والأوطان باقية بينما الأشخاص زائلون، ونبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان»، فصمت الخبير برهة، ثم قال: «نسيت أن أسألك من أي بلد أنت؟» فقلت سأحكي لك عنها وعليك أن تحزر!، فأنا من بلد تقوم فلسفة إدارة السلطة فيها على:(أ) جوّع كلبك يتبعك، (ب) اغتنام الفرص لأن الفرصة لا تتكرر مرتين فكُن عضو مجلس نواب أو وزيراً تبقى بدرجة وزير مدى الحياة، أو كن مسؤولاً كبيراً في الجهاز الأمني يمكنك الاستيلاء على الأراضي والحصول على وثيقة ملكية، أو كُن موظفاً في مصلحة الضرائب تحصل على نصيبك من 1% من إجمالي إيرادات المصلحة السنوي والبالغ حوالي 600 مليون دولار أمريكي قبل تطبيق قانون ضريبة المبيعات، (جـ) قل ما تريد ونحن نفعل ما نريد، وهذه ديمقراطيتنا .. أنا من بلد الجغرافيا لا التاريخ. أنا من بلد لا يقرأ حكامها التاريخ ولاي أخذون بعبره. أنا من بلد حكم القبيلة، حكم الأعراف، لا حكم القانون والمؤسسات، بلد يحظى فيها ابن الشيخ أو المسؤول بالمنح الدراسية في أفضل الجامعات الأجنبية، ويحتل المناصب والوظائف الكبيرة والهامة، بينما ابن المواطن العادي حتى ولو تخرج طبيباً أو مهندساً أو في تخصص آخر تراه عاطلاً عن العمل سنوات وعالة على أبيه وعلى أقاربه.

أنا من بلد يتكلم فيها الحكام كثيراً ويفعلون القليل جداً. أنا من بلد تتجاوز فيه نسبة الإنفاق على الدفاع والأمن 50% من إجمالي موازنة الدولة، بلد تُسْلَق فيه القوانين سلقاً بغية تحصيل أكبر قدر من الضرائب التي سيتحملها في نهاية المطاف المواطن المستهلك. أنا من بلد يقوم الإعلام الرسمي فيها على اعتماد التضليل وتمويه الحقائق فيعطي ما أنجز فوق حجمه ويضخمه، ويسدل الستار على القضايا التي تنخر في جسم المجتمع كالبطالة والفقر والرشوة وتفشي الفساد بمختلف أشكاله، إعلام فيه تغيب هموم الناس كانقطاعات الكهرباء والماء وانقشاع بالوعات المجاري، ناهيك عن وضع المستشفيات والمراكز الصحية المتردي وتدني وهبوط مستوى التعليم بمختلف مراحله. أنا من بلد يدعي ساسته فهمهم للمتغيرات الدولية والإصلاحات المطلوبة منهم لمواكبة تلك المتغيرات عبر الاستراتيجيات المرتجلة والعديدة التي كتبت خلال العامين الماضيين واختزال كل منها أو بعضها في ندوة واحدة في أحسن الأحوال، دون فتح حوار ونقاشات واسعة - تثريها - مع كل الجهات ذات العلاقة، وفي الزحمة والارتجال ومع المصالح تمرر الأمور مع كل الثغرات والنواقص. أنا يا عزيزي من بلد لا يعرف مسؤولوها ماذا يريدون لها، ولكنهم يعرفون ماذا يريدون منها، بلد لا تُنفّذ فيها أحكام القضاء على الجميع، بلد فيها (الزلط) يصلح الغلط، بلد يلبس القبيلي أو البدوي الأمي فيها البذلة الأنيقة مع ربطة العنق (الكارفتة) ليقول الناس عنه إنه مثقف ومتحضر ويصدق نفسه. أنا من بلد صاحب البقالة (الدكان) فيها يشكو من الموظفين الساكنين بحافته (حارته) وفي الوقت نفسه يرثي لحالهم فهم جيرانه وزبائنه، فشكواه ناتجة من كثرة الديون التي عليهم وهي تزداد بين حين وآخر، مع أنهم يدفعون له معظم مرتبهم الذي يستلمونه في نهاية كل شهر، والمشكلة أن الديون تفوق ما يُدفع له، وحتى يبقي صاحب الدكان على زبائنه ويحفظ الود بينه وبين جيرانه يستمر في إقراضهم أحيانا والبيع لهم بالدين، أي أنهم يصبحون «مديونيرات».

أنا أيها الخبير من بلد يعتقد حكامها أنهم أقنعوا دول العالم والمنظمات الدولية بصحة وكمال برامجهم التنموية والإصلاحية المفبركة .. وهنا أوقفني الخبير قائلاً: قبل أن أخبرك من أي بلد أنت، ثق أن الدول العظمى لها مصالح كبيرة وكثيرة في بلادكم وعليها أن تحميها وتدافع عنها بكافة الوسائل المتاحة لها داخلياً وخارجياً، وأن سفاراتها - بطواقهما المتخصصة - الموجودة في عاصمتكم ليس الغرض منها المجاملات الدبلوماسية أو السياحة والنزهة، فهي تعرف عنكم الصغيرة قبل الكبيرة، وأن الكبار لا يمزحون في الأمور التي تهدد مصالحهم حتى مع أصدقاء الأمس، فلا صداقة دائمة في السياسة الدولية والصداقة مربوطة بالمصلحة بمفهومها الواسع، والغبي من يعتقد أنه أذكى الناس ويضحك على الآخرين، هذا من جهة، ومن جهة ثانية ما دام مؤتمرنا خاصاً بالتضخم فقد تأكد لي أن بلادكم لا تعاني تضخماً في الأسعار فحسب، إنما هناك تضخم في الوزراء وتضخم في رجال الأمن وتضخم في الفساد وتضخم في الإعلام وتضخمات كثيرة أخرى، فعلقت عليه مازحاً «لهذا شاركت في هذا المؤتمر لدراسة ومناقشة التضخم بكافة أشكاله». وحينها دق الجرس وطلب من المشاركين في المؤتمر التوجه إلى قاعة الاجتماعات، فقلت له ونحن في طريقنا إليها، باختصار يا عزيزي أنا من بلد فيها المسؤول مليونير والمواطن العادي مديونير، فرد علي بسرعة قائلاً: «لقد عرفت بلدك، فهي بلد ليس فيها حرفاً من أحرف كلمة - صدق-»، فقلت له صدقت .. ودخلنا القاعة التي أغلقت ليبدأ المؤتمر أعماله.

رئيس قسم الإحصاءات الاقتصادية

وكبير خبراء سابق بالأسكوا- الأمم المتحدة

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى