شغب الجمهور وضرورة فهمه

> خليل سعيد ثابت:

> شغب الجمهور سلوك عفوي يكون مربكاً أحياناً أو مدمراً...الشغب سلوك خطر بنتائجه على من يسلكه أو المحيط الذي يحدث فيه والأشخاص المتواجدين والذين تتوجه نحوهم نتائج غير محسوبة من أعمال الشغب المرتكبة، والخطورة تتفاوت استناداً إلى شخصية وعدد الأفراد المشاركين فيه، وكذا لطبيعة (نوعية) وحدة (فعالية) ومدة السلوك وما استهدفه مباشرة. والمقصود بالمصطلح «شغب»، أنه كل سلوك أو أفعال وتصرفات غير منظمة أو منتظمة من قبل شخص أو مجموعة أشخاص، يكون ظاهرها ونتائجها المباشرة إحداث إرباك للسكينة والحياة الاجتماعية المعتادة للناس في المكان أوالزمن المحددين، وقد يتعدى أحياناً الأمر ذلك إلى التأثير العنيف والعدواني في السلوك بالاعتداء على الأشخاص أو الممتلكات والقيم المادية والمعنوية وعرقلة المواصلات والاتصالات بين الناس والمناطق، وإحداث الاضطراب وتأجيج الصراعات والفتن بين الأفراد أو بين الفئات الاجتماعية في المجمتع صغيرة كانت أم كبيرة.

وما يهمنا هنا هو التركيز في إلقاء الضوء وتوجيه الانتباه إلى الشغب الذي يحدثه مجموعة من الناس بصورة الحشد أو الجمهور، الذي تتطور أفعال وأعمال وتصرفات أفراده بعفوية وبنمطية متشابهة إلى حد بعيد في إحداث الشغب في المكان، بما يؤدي إلى الإرباكات وقطع السكينة وانتظام الحياة المدنية للناس أو ممارسة العنف، وارتكاب جنح وجرائم الاعتداء على العلاقات أو الممتلكات والقيم أو الجسد أو النفس.. حيث اتضح ذلك جلياً في الكثير من الوقائع والأحداث في حياة المجتمعات الحديثة، وكان أبرزها الأحداث المعاشة خلال الفترة القليلة الماضية في كل من اليمن والسودان، حيث كانت نتائجها متباينة ومختلفة لاختلاف أسباب كل منها وظروف حدوثها والمتضرر منها. فقد عانت بعض المدن اليمنية من أعمال شغب اندلعت في اليوم والأيام التالية لإعلان الحكومة رفع الدعم عن المشتقات النفطية وتحديد تسعيرته الجديدة، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار العديد من السلع والخدمات، ونتج عن تلك الأعمال غير المسؤولة والعنيفة تدمير العديد من الممتلكات الخاصة والعامة في الشوارع والساحات العامة، ونهب كثير من البضائع والقيم المادية من الأسواق والمتاجر، وتعطيل بعض الخدمات وحركة وسائل النقل، مما أدى إلى محاولة معالجة الموقف المفاجئ بمستوى غير موفق أحياناً، كما أدت أعمال الشغب تلك وتداعياتها إلى وفاة وجرح العديد من المواطنين أغلبهم من الأبرياء المتواجدين أصلا في المكان، إما صدفة أو أثناء ممارسة حياتهم العادية اليومية.

وشهدت العاصمة السودانية الخرطوم والعديد من المدن السودانية في النواحي والأقاليم الأخرى، أعمال شغب عنيفة جداً، انصبت معظمها في الاعتداء على مواطنين في حياتهم وسكنهم وممتلكاتهم، وكذا الأعتداء وتدمير الكثير من مرافق وممتلكات الدولة السودانية ومنشآتها الهامة، ونهب البضائع من الأسواق والمتاجر والبيوت والاعتداء وتدمير العديد من وسائل النقل والمواصلات العامة والخاصة. ذلك حدث مباشرة بعد الإعلان رسمياً، يوم الأول من أغسطس - نهارا ً- عن وفاة نائب رئيس الجمهورية السوداني ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان (جون قرنق) بعد أن كانت الأنباء منذ مساء اليوم السابق تتضارب حول مصير نائب الرئيس وحقيقة نجاته وهو على متن طائرة مروحية تقله من جمهورية «أوغندا» الواقعة جنوب السودان، عائداً إلى الخرطوم، مع حديث عن سوء الأحوال الجوية والطبيعية التضاريسية الخطرة للطيران في المنطقة الحدودية الجنوبية للسودان.

كما لا ننسى العديد من أحاديث وأعمال الشغب التي شهدتها العديد من بلدان العالم في السنوات الأخيرة، منها على سبيل الذكر أحداث الشغب التي عمت العديد من المدن العراقية بعد توجيه الضربات العسكرية المدمرة للقدرات والقاعدة المادية العسكرية والاقتصادية والثقافية والعلمية والسياسية والإدارية والتنظيمية.. للدولة والمجتمع العراقي واحتلال أرضه وإسقاط النظام السياسي فيه، ولقد شاهدنا بعض من تلك الأعمال من على شاشات الفضائيات الإخبارية العربية وغير العربية، ومما رأيناه التدمير للمتلكات والمرافق والمباني والمنشآت الحكومية ونهب ممتلكات وقيم من منازل مواطنين أو مسؤولين في النظام المنهار، كما ذكرت حالات الاعتداءات على الأشخاص ومحاولات القتل. أما أعمال الشغب في الأردن التي حدثت قبل سنوات فنشأت بعد إعلان الحكومة الأردنية مجموعة من الإجراءات الاقتصادية، انحصرت تلك الأعمال كما يبدو في عدد من المدن أشدها كان في مدينة معان، واقتصرت آثارها ربما في تدمير ممتلكات ومنشآت في الساحات العامة والطرق الرئيسية.

أما أشهر أعمال الشغب، التي سجلت على مدى السنوات المنصرمة، غلب حدوثها في ملاعب كرة القدم أثناء المباريات ذات الطبيعية التنافسية الحادة وبعد المباريات مباشرة أو أثناء الاحتفاء بالنصر في الشوارع والساحات العامة، أو ما يعبر عنه بعض من جمهور الفريق المعاني من خيبة نتيجة المباراة. وشغب الملاعب ذو شهرة وحدوثه لا ينقطع عن المشهد الرياضي كثيراً إلى حد أنه أصبح لدينا معرفة بالإجراءات التي تتخذ على مستوى الدول أو على المستوى الإقليمي والدولي على مشجعي بعض الفرق أو اللاعبين المشاغبين أو مثيري أعمال الشغب، وهناك حديث عن زعرنة وشغب الجمهور المشجع لبعض الأندية الإنجليزية أو التركية، كما يطلع المتابع العربي على العديد من أحداث الشغب المثيلة أثناء أو بعد المباريات الحاسمة لأندية بعض الدول ذات التاريخ الطويل لمشوار لعبة كرة القدم فيها، فكثيراً ما تنفجر أعمال الشغب في الملاعب المصرية أو الجزآئرية أو السعودية أو اليمنية.

وراء كل شغب سبب أو دافع مؤثر
وبالنظر إلى ما ذكرنا من أمثلة لأحداث الشغب، فإن كل شغب لحشد من الناس كان وراءه سبب معين غالباً ما يكون مفاجئاً وسريعاً وغير متوقع، وتلك الأسباب لا تقتصر كرد فعل على أحداث ذات طابع سياسي أو اقتصادي معيشي أو بنتيجة الانفعال عالي الوتيرة، بل ويحدث أثناء التظاهرات أو التجمعات العامة في الاجتماعات الحاشدة أو عند حضور فعاليات ثقافية أو فنية عامة، أو في ساحات وشوارع الازدحام لأسباب مختلفة تحكمها الظروف الآنية للمكان والمناسبة في التجمع وطبيعة الجمهور وحالة وخبرة الجمهور في الظروف والتأثيرات المشابهة كحالات الخوف المؤدي إلى الذعر أو محاولات الهرب والاتقاء من خطر يبدو داهماً بنيتجة أفعال معينة أو بسريان إشاعة شديدة التأثير. وفي الوقت الذي ينظر إلى الشغب كونه سلوكاً عفوياً للجمهور أو الحشد، فإنه قد ينشأ بفعل منظم لشخص أو جماعة أو حتى عصابة يثير فيه الحشد غير الواعي للفعل العمدي الموجه لتكون ردة فعل الحشد بسلوك عفوي، إما بالانفعال الإيجابي أو السلبي أو ردة فعل بأعمال أو تصرفات عنيفة أو غير عنيفة، بصورة مؤقتة سريعة التلاشي أو متقطعة الحدوث أو أحياناً المستمرة لفترة غير قصيرة من الزمن.

النتائج المباشرة لأعمال الشغب
إن الغالبية العظمى لما تسفر عنه أعمال الشغب تكون الضحايا بالأرواح وخاصة بين المواطنين الأبرياء والعدد الكبير من الجرحى وتدمير أو نهب ممتلكات أو قيم عامة وخاصة، وتعطيل حركة السير والمواصلات وأعمال الخدمات والمصالح الشخصية والاجتماعية والرسمية، وكثيراً ما تحدث العديد من المعاناة والأضرار الصحية والنفسية والانفعالية لدى الكثير من الناس وتترك أثراً سيئاً في العلاقة بين المواطنين وأحياناً بين الفئات والمجموعات الاجتماعية المختلفة، أو حتى أحياناً في العلاقة بين المجتمعات والبلدان.. وهذا يعني أن لأعمال الشغب تداعيات وآثار سلبية تمتد في خطورتها بين التأثير المحدود، الذي يمكن تجاوزه بسرعة أو السيطرة عليه، والتأثير الذي قد تكون نتائجه كارثية على المواطنين والمجتمع برمته أو أنه في حالات معينة يشعل أعمال رد الفعل الانتقامية أو الثارية، والتي لا يمكن حساب تداعياتها اللاحقة، ونستشهد بما قاله نائب (جون قرنق) عندما كان يدعو السودانيين إلى ضبط النفس والهدوء وتمنيه أن لا تظهر رواندا أخرى، لعله كان يشير إلى أنه لو استمرت أعمال الشغب العنيفة بين المواطنين بعضهم ضد بعض، ربما تتطور إلى مجازر عرقية يصعب السيطرة على تداعياتها وما تؤول إليه الأمور في المستقبل المنظور في ظل جهود السلام التي لازالت حديثة العهد والتطبيق بعد احتراب العقود الثلاثة بين مركز الدولة وقوات تمرد جنوب السودان.

الموقف المطلوب
إن خطورة أعمال شغب الناس (شغب: الحشد، الجمهور، المجموع) في المستويات والمجالات المختلفة بأسباب اندلاعها المتعددة، تستوجب دراستها بعمق ودقة وشمول مناسب، من أجل فهم حقيقة وطبيعة هذا السلوك ودوافع وأسباب حدوثه والإمكانيات والاحتمالات المتوقعة لتطور اتجاهات وشدة عنفه وعدوانيته، وذلك بهدف اكتساب المعرفة الضرورية للحالة الخاصة لهذا السلوك الاجتماعي العفوي للجمهور أو حشد الناس ووضع التصورات المناسبة لإزالة الأسباب أو مقاومتها إن نشأت والعمل على الحد من تفاقمها وتدارك أضرارها بالسرعة والإمكانية المناسبة، مما لا يكون عاملاً لتفاقم أو نشوء ارتدادات جديدة لأعمال شغب لا تنتهي سريع،اً وهذا يعني أن نتائج مثل تلك الدراسات تساعد المنظمات والأجهزة والمؤسسات الحكومية المدنية والأمنية والمجتمع المدني من أجل العمل بجدية لإزالة تأثيرات مثل تلك الأعمال والتصرفات إن حدثت على المستويات المختلفة، ومنها المعالجات والإجراءات التربوية والاجتماعية والسياسية والإدارية والتنظيمية والقانونية والثقافية والهندسية والإنشائية المناسبة. إن الدراسة المطلوبة ينبغي أن يشارك فيها الجميع، إما بالقيام بها أو المساعدة لإنجاحها، حيث يستحسن أن يتقدم بمشروع الدراسة المختصون في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي وعلم الإدارة، وبالذات المهتمون بالسلوك الاجتماعي للناس في الظروف المختلفة من حياة المجتمع.

اخصائي نفسي ومحاضر في علم النفس الجنائي والقضائي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى