د. عمر عبدالعزيز..رؤية النص الإبداعي كما ينبغي أن تكون

> «الأيام» جمال ناصر شراء:

> الأستاذ الدكتور عمر عبدالعزيز، أحد طيور اليمن المهاجرة والمحاضر العالي الهمّة الذي حمل على عاتقه رسالة الثقافة في أبهى حللها، وتقديمها للمتلقي أينما حط رحاله، واضعاًً نصب عينه التجديد والتحديث للاستشراف ومواكبة المتقدمين. ولما كانت محطته الأخيرة لدى منتدى بن شامخ يوم الإثنين الماضي، وأتيح له المجال ليلقي بجدول عدبة مياهه متفرعاً من محيط معرفته وعميق مداركه، اختار لنا رغبة منه عنواناً رائعاً لمحاضرته هو: (المرئي واللا مرئي في النص الإبداعي).

في البدء أبدى عظيم امتنانه لهذه المدينة الأم (عدن)، وكيف أنها أسهمت بمحتواها المحسوس وغير المحسوس في إنشاء ذاكرته الأولى وإنماء إدراكه والتعلم واستكناه المرئي واللا مرئي، وهو الموضوع الذي جعله اختياراً لمحاضرته الضافية والشائقة في آن واحد.

وكان اختيارا حالفه التوفيق فيه أو كما قال لشموليته من جهة، ولأنه يجمع البعدين المرئي واللا مرئي في النص، مستدركاً أن النص في مداخلته ليس فقط النص الأدبي أو السردي بل كل النصوص كالبصري والموسيقي والسردي وبكل اللغات باعتبارها ذات معطى واحد وتنبع من مصدر واحد.

مضيفاً أن كل النصوص تتماهى وتتواشج وتتضافر، متمثلاً بالنص السردي كما هو الحال في القصة القصيرة أو الرواية فإن المقصود بذلك الغنائية في النص ذاته، وهو الحال نفسه عن الحديث عن الشعرية في النص، فالمقصود هو الغنائية والموسيقى ايضاً، كذلك الحال نفسه في المعطى البصري كاللوحة أو الصورة الفوتوغرافية أو أي شكل من أشكال المعطيات البصرية الأخرى، فإنها أيضاً خاضعة لنفس النواميس محكومة بها، والتي تؤدي إلى علم جمال البيان وعلم جمال البديع.

وعلم الجمال بحد ذاته ومحتواه، كبحث يهتم بالرؤى في كل الأنواع الفنية. (أي علم الجمال) لا يقرأ النوع الواحد كونه محكوماً بقوانينه الخاصة، لكنه يقرأ كل الأنواع الفنية والأدبية باعتبارها محكومة بالقوانين ذاتها.

ويوضح د. عمر أن المقصود مما سبق، أن النص أشمل من النص الإجرائي أو المتعارف عليه والمحكوم باللغة الأدبية بدليل أن المتعارف عليه من أن النص له باطن وظاهر، هو قول يؤكد أن الإبداع معطى يشتمل على مدلولات ما ورائية شاملة، لذلك فلا بد لكل فن أن يكون مختزلاً بطبيعته، انتقائياً قائماً في أساس الاختيار الإبداعي المحكوم بقوانين الفن. فمثلاً لا يمكن للروائي السارد أن يتحدث عن وقائع الحياة كما هي، بل أنه يتخذ من وقائع الحياة ما يراه مناسباً لتشكيل المتن في نصه المكتوب. لذلك نراه يستعير أدوات الفنون الأخرى بطريقة تمثلية وليست ميكانيكية، ليصل إلى نص سردي طويل، مما يعني أن ثقافته البصرية الموسيقية تسعفه في أن يقدم نصاً سردياً متماسكاً متكاملاً إحيائياً ويحتمل الكثير من الإشارات. ويصل الحال بهكذا صورة إلى التشكيلي والملحن الموسيقي وأي مبدع خلافهم بقوام ثقافته يستطيع أن يقدم تجريداً يتماهى مع الحياة ويعبر عنها.

وراء إدارة كيمياء الشعور.. مبدع كبير
وهكذا يمضي بنا د. عمر عبدالعزيز في رأيه الشخصي إلى أن الماوراء في أي نص هو أصل أصيل، بل أهمية استثنائية، فكل ظواهر الوجود محكومة بغيب ما أو بمجهول أكبر، لذلك فإن ما نراه ليس إلا جزءاً من الحقيقة الكلية، وأن ما نعرفه ليس إلا عتبة أولى في معراج المعرفة التي لا تتوقف.

لذلك فالماوراء في المعرفة الفنية أو الإبداعية يفضي للحديث عن المجهول الذي يُسعف المعلوم. مما يعني أننا عندما نعلم شيئاً فإننا لا نعلم الشيء الكثير، وأننا كلما اكتسبنا معرفة ما، انفتحت أمامنا آفاق لاحدود لها من المعرفة.

والخلاصة أن المبدع الكبير والفنان الحق هو ذلك الإنسان الذي يستطيع أن يدير كيمياء الشعور والحسية فيما يكتب أو فيما يرسم أو فيما يموسق، والقادر على الإبحار في عوالم الغيب استناداً إلى المعلوم واستناداً إلى الخيال.

وفي الأخير فإن الماوراء ببساطة شديدة يعني القانون الكلي لكل ما هو ظاهر، وبالتالي ببساطة أخرى يعني الدفق المجهول الذي يؤكد ما هو معلوم.

النص المكتوب.. وإجماع العلماء
ويستخلص د. عمر رأي الإجماع وهو لعلماء الجمال بل وعلماء الألسُنيات وعلماء النقد، حيث وجدوا أن النص المكتوب مثلاً ليس معطى مفاهيم لكلمات ومصطلحات قاموسية. ولكنه أيضاً قيمة بصرية، وحالة تفاعل مع بياض الصفحة. ثم إنه فوق هذا وذاك، دفق يتداعى أثناء الكتابة. وكل فكرة سابقة على كتابة تتحول، وكل كتابة تتحول في سياقها تفاعلٌ مع المبدع ومع المتلقي. لذلك فأثر الكتابة عند المتلقين تتباين وتتدرج وتختلف، ولذلك قالوا إن هذا الكاتب أو المؤلف ليس هو الوحيد الذي يصنع الكتابة. فإذا كان هذا المؤلف عارفاً بتكنيك الكتابة، قادراً على أن يكتب هذا الموضوع أو ذاك بمعرفة مسبقة، فإن شيئاً روحانياً ووجدانياً وسرائرياً - إن جاز التعبير - يجعله يبدع أكثر، وفيما يكتب فإن كل عناصر الكتابة الفيزيائية من ورق وحبر وصفحة توحي بمزيد من التداعي وتوحى بفجوات تسمح بتعدد المعاني وتعدد التعابير.

فالخلاصة أن اللغة على أهميتها وبمعناها المجرد ليست هي سبب الكتابة، وهي المفردة التي تتكئ عليها الكتابة، ولكنها «أي اللغة» حمّالة أوجه، وحالة من التغيرات المستمرة.. وهي قابلية لاستعارة كثير من اللغات الأخرى، فلغة الأدب ليست بعيدة عن لغة البصر والبصيرة، وليست بعيدة عن لغة الموسيقى. لذلك فإن الضابط الأكبر لمنظومة الإبداع الكوني هو موسيقي الوجود. أو موازين ونواميس هذا الكون التي تنعكس في كل أشكال المعاني والإبداع التي نتعاطى معها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى