تخطيط الطاقة البشرية للعمل في الدولة والمجتمع <2>

> «الأيام» امذيب صالح احمد:

> 2- التوازن بين القطاع الزراعي والقطاع الصناعي...أما القاعدة الثانية في تخطيط موازنة الطاقة البشرية العاملة فهي إيجاد توازن مناسب بين الطاقة البشرية العاملة المطلوبة في القطاع الزراعي والطاقة البشرية العاملة المطلوبة في القطاع الصناعي. لقد ذكرنا فيما سلف أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية تهدف الى تلبية الحاجات الأساسية لمعيشة القوى البشرية العاملة قبل كل شيء، وبما أن مصادر الثروة الغذائية تكمن في القطاع الزراعي فإن الزراعة وكل ما يتعلق بها من صناعة تغذيها أو تتغذى عليها تعتبر مرجحة بالضرورة عند موازنة الحاجة من طاقة القوى العاملة. وبما ان القطاع الصناعي متنوع تنوعاً كثيراً في محتواه فإن التدرج في تلبية مطالب أجزائه التي تلبي الحاجات الأساسية للقوى البشرية العاملة من طعام وكساء ومسكن وغير ذلك من الخدمات الضرورية أمر يحتاج الى عناية وتدقيق في تنظيم الأولويات. قد يظن ظان بدافع اقتصادي تجاري انه يمكن ترجيح مطلب صناعة ما على تنمية مصدر للثروة الغذائية مثلاً، لما تتمتع به تلك الصناعة من جدوى اقتصادية، وعلى أساس أن توفير الغذاء من الخارج هو أجدى وأرخص كلفة، لكن مصلحة هذا المجتمع وكيان دولته وهذه القوى البشرية العاملة تقتضي منها دائماً ان تعتمد على نفسها وعلى موارد بلادها وخصوصاً فيما يتعلق بحاجات معيشتها الأساسية حفاظاً على سلامة كيانها الإنساني في عصر يسوده الاستخراب الاستعماري والاشتراطات الدولية والعولمة الامبريالية لليبرالية المادية، التي تتظاهر بالاهتمام والإشفاق على حقوق الانسان في دول العالم المتخلفة، بينما تبطن بأعمالها التجارية والاقتصادية الاستغلالية ضياع الحقوق الأساسية للحياة عامة وللأحياء المستضعفين خاصة في هذه الدول، وخاصة بعد أن استطاعت الدول الكبرى تعقيم البذور الزراعية بحيث لا تنتج حباً عند زراعتها حتى تصبح الشعوب معتمدة على استيراد الحبوب منها على المدى الطويل. وعموماً فإن العامل المؤثر في الموازنة بين هذين القطاعين هو مدى تلبية هذا القطاع أو ذاك للحاجات الإنسانية الأساسية المزيلة للفقر والمطورة لقيم حقوق الإنسان في العمل والعلم والصحة والتكافل الاجتماعي.

3- التوازن بين القطاع العام والقطاع الخاص
أما القاعدة الثالثة في تخطيط موازنة الطاقة البشرية فهي إيجاد توازن مناسب بين القوى العاملة المطلوبة في القطاع الخاص وبين القوى العاملة المطلوبة في القطاع العام، فكل نشاط اقتصادي أو اجتماعي يكون إما ضمن القطاع العام أو القطاع الخاص، فالقطاع الخاص هو أقدم نشاط عرفه الإنسان، أما القطاع العام فقد تطور فيما بعد بتطور شكل الدولة وقوتها. فهو يشمل جميع أجهزة الدولة المدنية والعسكرية وجميع مكوناتها وتركيبات سلطاتها الدستورية وما يتبعها من شبكات الخدمات الواسعة التي تقدمها بالإضافة إلى جميع الأعمال والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية التي يقدم لها الدعم والعون للبقاء والاستمرار في نشاطها. وحينما يذكر القطاع العام تنصرف الأذهان في العصر الحاضر الى الجهاز الاقتصادي والتجاري والمؤسسات العامة التي نشأت في ظل الفكر الاشتراكي التطبيقي في القرن العشرين، مع ان القطاع العام الاقتصادي ذاته نشأ في ظل الفكر الرأسمالي التطبيقي وخاصة في مجال الصناعات الثقيلة، وما زالت السياسات الرأسمالية للدول القوية تقدم الدعم الحكومي في مجال الأنشطة الاقتصادية الاستراتيجية الخاصة سواء كانت زراعية أو صناعية أو تجارية. فالدعم قد يكون مساعدة أو حماية أو تخفيف قيود أو فرض شروط على الغير أو تدخلاً عسكرياً للحصول على المواد الخام أو لتهيئة الظروف المناسبة في البلدان الأخرى سياسياً واقتصادياً لتصريف وتسويق سلع شركاتها وتسهيل نشاطها. إن الدعم بمفهومه الظاهر والباطن هو نشاط اقتصادي عام في خدمة القطاع الخاص الذي يخدم المصلحة العامة لتلك الدول الرأسمالية وشعوبها.

أما القطاع الخاص فيشمل القطاع الخاص الفردي أو العائلي أو المشترك والقطاع التعاوني والقطاع المختلط، وهذا القطاع الخاص هو أكثر نشاطاً وأوسع مجالاً من القطاع العام، ولكنه شديد الحساسية تحكمه المنفعة والربح ولا يتسع إلا حسب قدراته وحدود إمكانياته التجارية، ولذلك فهو لا يغامر في بناء الاقتصادات الكبرى التي لا يضمن مردودها في الأجل القريب وخاصة حينما لا يشعر بالأمان أو النظام أو الاستقرار أو التعاطف. فطوال التاريخ يتدهور النشاط الاقتصادي والتجاري بفعل الفوضى وعدم الاستقرار أو بفعل زيادة الجباية والضرائب التي تفرض عليه مزاجياً لمواجهة الزيادة في إنفاق الحكومات وإسرافها كماً وكيفاً.

إن التوازن في توزيع الطاقة البشرية بين القطاعين الخاص والعام ينطلق أساساً من السياسات الصحيحة والقوانين العامة والخاصة التي تحترم الملكية الخاصة والعامة وتحدد المجالات المناسبة لكل نشاط، بحيث لا يحدث تداخل أو تنافس فالقطاع الخاص ينشط تجارياً من اجل الربح أما القطاع العام فلا ينشط إلا من أجل خدمة المواطنين بغير ربح. وكل نشاط للمتاجرة والربح من جانب القطاع العام هو نزع لاختصاص القطاع الخاص وتدخل ضار من جانب الدولة. أما القطاع الخاص فإنه كلما تقوى وارتقى في نشاطه فإنه يستطيع ان يسحب بعض الخدمات العامة التي يمكن تحويلها الى نشاط تجاري حين يكون مستوى المعيشة للمواطنين قادراً على ذلك، وبشرط أن لا تتأثر الحقوق الأساسية لهم. إن انكماش الطاقة البشرية في المجالات الأمنية والعسكرية وغيرها من الأجهزة الحكومية يجب أن يكون تدريجياً لصالح القطاع الخاص النشيط وليس كما جرى بالسياسات العشوائية والفوضوية المدفوعة من الخارج والمنساقة من الداخل التي استعجلت تحطيم الطاقات البشرية وتكديسها في أسواق بائرة للبطالة دون رأفة أو اتزان ودون معرفة بالمناخ الاستثماري والتجاري للمجتمع. إن التوازن في توزيع الطاقة البشرية بين القطاعين تحكمه عوامل الطرد والجذب التي يحددها كل قطاع. وهذه العوامل يقوى طردها ويضعف جذبها في المجتمع المتخلف، أما في المجتمع المتطور تطوراً اقتصادياً كبيراً فإنه يقوى جذبها ويضعف طردها. وعليه فإن التوازن يكون آلياً وذاتياً أكثر منه إدارياً وإرادياً من الناحية التخطيطية.

4- التوازن بين الأرياف والحواضر
أما القاعدة الرابعة في تخطيط موازنة الطاقة البشرية العاملة فهي إيجاد توازن مناسب بين القوى العاملة المطلوبة في المدن والقوى العاملة في الأرياف، فالمدن كما نعرف تعتبر مراكز جذب للقوى السكانية القادمة من الأرياف لما تتصف به من تحضر ورقي. ولذلك فإن القطاعات الزراعية والإنتاجية والخدماتية في الأرياف ستتأثر سلباً بالهجرة السكانية من الريف الى المدينة على المدى القصير أو الطويل. وعليه فإنه يجب تنظيم عوامل الطرد والجذب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحيث تتوازى الأرياف والمدن في سلطاتها الإدارية والتخطيطية أولاً ثم في نشاطاتها الاقتصادية والخدماتية وجاذبيتها الاجتماعية بغير رجحان مضر للاقتصاد والمجتمع، وبما يحقق استقرار القوى البشرية من السكان. فكل تضخم للمدن هو ضمور للأرياف وتدعيم للمركزية الشديدة والاستبداد وتعميق للفجوة بين الريف والمدينة الذي لا يخدم أهداف تنمية مجتمع القوى البشرية العاملة ومصلحتها في العدالة الاقتصادية والتوازن الاجتماعي.

ومن المفارقات المؤلمة للتخبط العشوائي في سياسات الدولة اليمنية التي تصف نفسها بالإسلامية في الدستور وتتصف قراراتها بالتبعية للسياسات الرأسمالية المتوحشة، هو ما تنتهجه من سياسات مركزية في الطرد المنظم للكوادر والخبرات من قوتها البشرية الى سوق البطالة بحجة استغناء أجهزة الدولة عنها كما تمليها قوانين التقاعد الرأسمالية للفكر الاستغلالي في القرن التاسع عشر التي يوصي بتنفيذها أساطين الفكر الليبرالي في البنك الدولي، بينما لا يجد المواطن أثراً لخدمات الدولة المعاصرة أو أعمالها في كثير من القرى والأرياف في أنحاء البلاد بسبب المركزية القاتلة. أما تلك الخدمات التي تقدم له حتى في المدن الكبرى فلم تبلغ بعد مستوى من التطور يجعلها تُفكِر بالاكتفاء أو الاستغناء عن كوادرها وخبراتها. إن إعادة توزيع الكوادر والخبرات على مناطق الجمهورية التي تشكو من العجز والنقص في كوادرها المؤهلة يقتضي استخدام كافة الإمكانيات والقدرات البشرية التي نضجت بالخبرة وتأهلت بالمعرفة على مدى سنين طويلة في خدمة وطنها بدلاً من اصطفافها بالإقعاد والتقاعد على خطوط الفقر التي ترسمها الأجهزة الدولية ضمن سياسات التكييف للاقتصاد الوطني حتى يستجيب لقوانين الاقتصاد السوقي، ضارباً عرض الحائط بكل القيم الإسلامية في بناء المجتمع والحفاظ على تماسكه ووحدته وخدمته. وعليه فإن الحكم المحلي الشامل والكامل الصلاحيات هو الحل الأساسي للتوازن بين الحواضر والبوادي.

5- التوازن بين الوحدات الإدارية والمناطق الجغرافية
أما القاعدة الخامسة في تخطيط موازنة الطاقة البشرية العاملة فهي إيجاد توازن بين القوى العاملة المطلوبة في مختلف المناطق والأقاليم الجغرافية للوطن والدولة. إن الوطن أو البلد الذي تقطنه القوى البشرية العاملة يختلف في جغرافيته ومناخه وموارده الاقتصادية من منطقة الى أخرى، كما ان التوزيع السكاني للبشر على مدى التاريخ قد تحكمت فيه عوامل مختلفة حسب طبيعة الصراعات الاجتماعية الداخلية والخارجية، لكن مثل هذا الوطن والمجتمع المسلم لا يمكن ان يترك فيه توزيع القوى البشرية العاملة حسب مشيئة الأقدار الطبيعية وغيرها من العوامل التاريخية للمجتمع، فبعض المناطق قد تكون غنية في مواردها الاقتصادية وقليلة في سكانها وبعض المناطق قد تكون فقيرة في مواردها الاقتصادية وكثيرة في سكانها، وبعض المناطق قد تكون في مواقع جغرافية هامة أو غير مهمة، لكن المجتمع الذي تبنيه القوى البشرية العاملة يجب ان يكون متماسكاً غير متخلخل، فالمشاريع الاقتصادية والعمرانية في كافة القطاعات ينبغي توزيعها توزيعاً مناسباً بحيث تتكون منها شبكة كاملة تغطي أراضي الوطن كله وتتسع فجوات هذه الشبكة أو تضيق حسب الظروف الاستراتيجية المتغيرة من منطقة الى أخرى، لأن ما تأمله القوى البشرية العاملة هو استغلال كافة مناطق وطنها وتقوية كافة أنحائه ليكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وتنبعث في أرجائها الحياة والنماء والعدالة.

6- التوازن بين مختلف المهن الأساسية كماً ونوعاً
أما القاعدة السادسة في تخطيط موازنة الطاقة البشرية العاملة فهي إيجاد توازن بين المهن المطلوبة في كافة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلبها خطط التنمية الشاملة العاجلة والآجلة. وكما قلنا فإن هذه الخطط ما هي إلا عبارة عن عمل مطلوب من القوى العاملة أن تنفذه بمنتهى الاقتصاد والجودة وهذا لا يتأتى إلا إذا كانت القوى العاملة المنفذة عالمة وعارفة ومدربة على أعمالها. وهذه الأعمال تتنوع في شكل (مهن) أو (صنع) أو (وظائف) معينة ومتخصصة ومحددة وتتفاوت مواصفاتها ومؤهلاتها وشروطها حسب تقسيم العمل في كل مهنة ضمن مجال نشاطها الاقتصادي. وكما نعرف فإن كل قطاع اقتصادي يتكون من مجموعة مرافق عمل سواء كانت إنتاجية أم خدماتية، وكل مرفق عمل سليم يتكون جسمه من هيكل حركي قادر على النشاط الفعّال، وهذا الهيكل ينقسم الى ثلاثة أقسام رئيسية أولها (الرأس) وثانيها (الصدر) وثالثها (الجذع)، فأما (الرأس) فهو يحتوي على القوى العاملة المختصة بوظائف القيادة والتخطيط والإشراف والتوجيه وأما (الصدر) فهو يحتوي على القوى العاملة المؤهلة والماهرة وشبه الماهرة المختصة بنقل خطط القيادة الى حيز التنفيذ بأحسن الوسائل الممكنة، وأما (الجذع) فهو يحتوي على القوى العاملة شبه الماهرة وغير الماهرة المختصة بالمساعدة على التنفيذ المباشر والواسع للعمل في صورته المجسدة. إذن ما هو نوع التوازن المطلوب بين المهن؟ يعتمد التوازن هنا على أربعة عوامل: أولها إيجاد توازن بين المهن المطلوبة في كافة المرافق، وثانيها إيجاد توازن بين مستويات المهن في مرفق العمل الواحد أو بين رأسها وصدرها وجذعها في المرفق ذاته، وثالثها إيجاد توازن في المهن بين الصنع والحرف والوظائف في كل قسم من أقسام هيكل العمل في المرفق، فـ(الرأس) يحتوي على العديد من مختلف القيادات التي تتطلب خبرة ومعرفة وسلوكاً حسبما تقتضيه مناصبها القيادية، و(الصدر) يحتوي على العشرات أو المئات من المهن المتنوعة ذات المهارات المختلفة، أما (الجذع) فمهما تشعبت مهنة فهي قد لا تحتاج الى تأهيل معين وإن كان بعضها يحتاج الى قدرات وإمكانيات معينة، ورابعها إيجاد توازن بين الحاجة الى هذه المهن وطرق سد هذه الحاجة.

ان التوازنات الثلاثة الأولى تتحكم فيها طبيعة الأعمال الواجبة على المرافق ذاتها الإنتاجية منها أو الخدماتية في مختلف القطاعات الاجتماعية والاقتصادية، أما التوازن الرئيسي الذي يتحكم فيها جميعاً وعلى مستوى التخطيط الشامل فهو التوازن بين ما هو مطلوب من هذه المهن ومصادر وطرق سد حاجة هذه المهن. ان جميع المهن في (رأس) و(صدر) هيكل العمل في كافة المرافق تتطلب (تعليماً وتدريباً وتأهيلاً) إلى حد معين حتى ينفذ العمل بكفاءة وقدرة واقتصاد. ولذلك فإن القطاع المختص بالتعليم والتدريب سواء كان مركزياً أو محلياً أو فرعياً يجب أن يوجه وينظم لإعداد الكوادر والمهارات المطلوبة للعمل في مرحلة معينة حسب الخطط الطويلة والقصيرة لمشروعات التنمية الشاملة، وهو ما يؤكد القاعدة الأساسية التي تقول إن التعليم والتدريب يجب ان يخدم العمل، كما أن ممارسة العمل وتجاربه سوف يغذي محتوى التعليم والتدريب بحقائق الأشياء والطبيعة، وإذا كان (الجذع) لا يحتاج الى قوى عاملة ماهرة في بداية تطور المجتمع فسوف تلبي حاجات هذا(الجذع) من غير قطاع التعليم والتدريب في أول الأمر، لكن تطور المجتمع صناعياً وحضارياً سوف يجعل مستوى (الجذع) في مستوى (الصدر) من حيث التدريب والتعليم والحاجة منهما، وهكذا دواليك تتصاعد المستويات المعرفية للقوى العاملة مع تطور المجتمع في المستقبل القريب والبعيد حسبما تبذله من جهد صحيح في بناء الدولة والمجتمع.

إن قطاع التعليم والتدريب هو قطاع خدماتي وينبغي أن يخدم جميع قطاعات الإنتاج والخدمات، وإلا ما الغرض من التعليم والتدريب إذا لم يخدم العمل ويبني الحياة المنشودة للقوى البشرية العاملة. إذا نظرنا الى نظام التعليم في كثير من المجتمعات غير المتطورة لوجدنا أنه مكون من مرحلة أولية ومرحلة ثانوية ومرحلة عليا، فالمرحلة الأولية التي قد تمتد الى تسعة أعوام تخرج إنساناً لم يدرب على أي (صنعة) او(مهنة) كما أن معظم من يتخرج بعد مرحلة الثانوية حتى وإن كانت متخصصة بنسبة ضئيلة في بعض العلوم الصناعية نظرياً فإن تعليمها العام يخرج إنساناً لا يميل الى العمل المهني، خاصة إذا كان عقله مغسولاً بجاهلية العشيرة النافرة من المهن أو لا يستطيع ان يلبي حاجات المهن العملية والحرف الصناعية التي تتصف بالعمل اليدوي والعضلي والذهني بسبب افتقاره الى الدُربة اللازمة.

إن تجزئة التعليم الثانوي على أساس أدبي وعلمي هو أول معول في تحطيم المنهج العلمي للتعليم العام والعالي الذي يبنى عليه التقدم العلمي والحضاري للحياة المعاصرة. أما المرحلة العليا من التعليم فإنها وإن كانت تستطيع تلبية بعض حاجات المهن المطلوبة في مستوى (صدر) هيكل القوى العاملة لأن التخصص الجامعي يواجه ذلك في كثير من الأحوال غير أنه بحاجة الى تحديد وتنظيم لأعدادها ومجالاتها. في المرحلة الأولية والثانوية تتغلب العلوم الإنسانية والنظرية على العلوم الطبيعية والصناعية والحرفية فتكون النتيجة ان المتخرجين الى دنيا العمل لا يرغبون فيما لا يستطيعون ولا يدركون أهمية المهن المطلوبة للحياة، لأن مثل هذه القوى العاملة الجديدة لم تتسلح بما تواجه به دنيا العمل حسب حاجة التطور، فلا هي تستفيد من أعمالها سريعاً ولا الأعمال تستفيد منها وتسد حاجتها من طاقة القوى العاملة الجديدة هذه. إن صناعة الانسان وفق هذا النوع من التعليم والتدريب هي خاطئة ومقلوبة، فإذا كانت العلوم الإنسانية والاجتماعية هي مرحلة راقية من العلاقات الاجتماعية للتطور المادي والاقتصادي للمجتمع، فمن الأجدر أن يكون التعليم من بدايته مرتبطاً بالواقع المادي للحياة. فالعلوم الطبيعية والتطبيقية والصناعية يجب أن تكون هي الأساس والغالبة وإلا فكيف سنواجه سد حاجة (العمل) المرسوم في خطط اقتصادية واجتماعية آجلة وعاجلة. إن المجتمع اليمني المسلم لهذه القوى البشرية العاملة سيدفع ثمناً باهضاً لهذا التناقض الكبير بسبب انعدام المطابقة بين أعداد القوى العاملة الجديدة وتعليمها وتدريبها وبين حاجات المجتمع للتطور من الأعمال المطلوبة في صورة (مهن وصنع وحرف ووظائف) معينة لم يدرسها الطالب مطلقاً طوال مراحل التعليم الأولي والثانوي العامين ولم يُهيأ لها، ناهيك عن ضعف مخرجات التعليم العالي في المجالات العلمية والتطبيقية والصناعية. أما فيما يتعلق بالقوى العاملة غير الماهرة فإن المجتمع المتخلف الذي يرسي قواعد تطوره الاجتماعي لن يجد صعوبة في مواجهة سد حاجته للعمل منها، وذلك أن الأوضاع السكانية وتغيراتها تستطيع توفير ذلك سواء كان بالجذب المستمر للقوى العاملة الى أسواق العمل من الرجال والنساء من مخزون البطالة المختلفة التي يعاني منها كل مجتمع متخلف ومتعطل بالسياسات الباطلة. ولقد أسلفنا القول إن التطور الاقتصادي والصناعي للمجتمع سوف يرفع من شروط التأهيل للقوى العاملة بحيث يأتي اليوم الذي لا يحتاج فيه المجتمع الى أي قوى عاملة غير ماهرة.

نستنتج مما سلف من الأفكار والقواعد التي تتحكم في توزيع القوى البشرية العاملة للسكان، أن سياسة تخطيط وتوظيف وتوزيع القوى العاملة لا تنفك ولا تنفصل مطلقاً عن التخطيط الاقتصادي والاجتماعي في جميع المجالات. فكما تبين لنا سابقاً فإن القوى البشرية هي الغاية والوسيلة للعمل، الذي هو عبارة عن خطط استثمارية اجتماعية واقتصادية شاملة للبلاد. والمشكلة التي تبدو لنا هي كيف تكون الموازنات في كافة المجالات المذكورة سلفاً. إننا لا نستطيع أن نفصل مجالاً عن آخر، فتخطيط الحاجة والتوزيع المتوازن للطاقة البشرية هو عملية متشابكة ومتداخلة لكنها تنسجم وتتوحد في حركتها وجوهرها وأهدافها، ولذلك فإن السياسة العامة الموزونة للقيادة المتزنة في المجتمع والدولة هي التي ترسم بانتظام خريطة التوزيع الجغرافية والاقتصادية والعمرانية والسكانية للقوى البشرية العاملة وللعمل في شكل خطط اقتصادية واجتماعية عامة أو جزئية وطويلة أو قصيرة بما يحقق الخير والعدل للجميع.

مايو 2005م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى