«الأيام» تنقل معاناة منطقة بالحشأ والضالع بعد ثأر دام لأكثر من خمسة عقود وبقعة منسية نزح أهلها وغادروا بعد عقود من النفي والاقتتال

> «الأيام» محمد علي محسن:

>
معاناة الأطفال جراء الاقتتال الدائم بسبب الثأر
معاناة الأطفال جراء الاقتتال الدائم بسبب الثأر
من منا لا يفرح أو يفخر بما أنجزه هؤلاء الرجال البسطاء (الاكروب والاحزوم) بعد توقيع وثيقة صلح حقنا للدماء وحماية للأنفس بداعي الثأر والانتقام؟ حتى سماء الله بكت فرحاً هذا العام فكانت دموعها المتساقطة مدراراً على أرض جبلت على الجدب والجفاف والحزن، وها هي اليوم سعيدة وفرحة بهطول القطر الكثيف للزرع والضرع والقلوب.. ومن لا تسره رؤية الأخوة المتحاربين مذ نصف قرن وهم اليوم جنباً الى جنب يزرعون الارض ويعيدون الابتسامةعلى شفاه أطفالهم ونسائهم ومنطقتهم المنكوبة، وكأني بالشاعر حاضراً بقوله:

تحاربت يوماً فسالت دماؤها .. تذكرت القربى فسالت دموعها «الأيام» بدورها سرّت بدعوة لزيارة المنطقة وخرجت بالاستطلاع التالي.

منذ توقيع وثيقة الصلح يوم 22 أبريل من العام الفائت 2004م وأنا أتحين الفرصة لتلبية الدعوة على أقل تقدير لاستطلاع ونقل معاناة أهل هذه البقعة الجغرافية من تراب الوطن، بعد خمسة عقود من الزمن حصدت الارواح وانتزعت السكينة والأمان من النفوس والافئدة وأحرقت الأخضر واليابس وقتلت الزرع والضرع والآمال والفرحة والحب والابتسامة وضربت الدار والأرض والحياة عامة بفعلها اللا إنساني والهمجي المتجرد من ذرة إيمان أو ضمير، وكُسيت الارض في تلك السنوات بالجدب والنساء بالسواد والدموع والثكل والرجال يسقطون بالتناوب هنا وهناك والأطفال يشيخون في الصبا والطفولة لا لشيء أو ذنب سوى قدرهم بالانتماء لهاتين القبيلتين المتحاربتين منذ نصف قرن، وبلا فائدة أو نفع أو نهاية لنزيف شلال دم بدأت قطراته تراق وتسيل قبل ميلادهم وميلاد آبائهم، إلى أن تم وقف هذا اللعين المسمى (الثأر) العام الماضي، لتبدأ القبيلتان بكتابة ورسم حروف حياة جديدة مستقرة ومطمئنة إلا من متطلبات ضرورية وأساسية من الخدمات التي أغفلتها أو تناستها وسط انشغال واهتمام الكل بثقافة البندقية والثأر والدم، وباتت الحاجة اليوم لثقافة في تعمير الأرض والمأوى والأمهات والفتيات، والكل في الحاضر بدأ للتو إعادة عمران ما خربته سنوات الثأر، ويساهم في رسم الصورة المشرقة لأجيال المستقبل بعد أن غلب الظن وساد الاعتقاد بأن قدر هؤلاء الاقتتال والخوف والماضي والتشرد ...إلخ.

صباح الجمعة 2 سبتمبر انطلقت بنا سيارة شيخ مشايخ مديرية الحشأ الأخ عبدالله خالد المشرقي وهو بالمناسبة يعد من الشخصيات القليلة التي كان لها شرف الاسهام بتوقيع وثيقة الصلح، وما زال يحاول جاهداً إيصال معاناة هؤلاء السكان للجهات المسؤولة وكانت الرحلة إلى منطقة (بقيلان) البعيدة بمعية الشيخ والزميل الصحفي عبدالرقيب الهدياني، مراسل صحيفة «الصحوة» و«نيوزنت» بالضالع إضافة إلى السائق أحمد حمود .. استغرقت الرحلة 12 ساعة كاملة من عاصمة المحافظة والعودة لها ثانية، 10 ساعات ركوباً على متن سيارة رباعية الدفع، فيما الساعتان ذهبتا في التوقف لصلاة الجمعة وغيرها أو لالتقاط بعض المشاهد - وما أكثرها في الحشأ - لموضوعات أخرى وفي الجلوس مع الأهالي في بقيلان والتي للأسف الشديد وصلناها قبل غروب شمس الأصيل بساعتين وفي ظرف ساعة لا غير فقدرت لنا المشاهدة الحية لأوضاع بائسة يعيشها هؤلاء المحسوبون على آل الكربي أحد ضحايا الثأر وممن قدر لهم البقاء في المنطقة، فكيف هو الحال بالنسبة للضحية الأخرى آل الحزمي، والتي وجدت نفسها مشردة متوزعة الأرض والمأوى وفي مديرية الأزارق المحاذية للحشأ حطت رحالها؟

الشيخ محمد راوح، شيخ الكروب وحامل همهم وألمهم لردح طويل وحتى اللحظة، افترشنا معه اخدود مجرى السيل الواقع اسفل أطلال منازل من طين، فيما الاطفال والشباب ورجل طاعن في السن شكلوا في جلستهم حولنا دائرة نصفية وراحوا في هذا الأثناء يحصون خلف شيخهم الوقور والهادئ مشاكلهم وهمومهم التي لا تحصى ولا تُعد ولا قدرة لنا بحملها ونقلها جميعاً من خلال تناولة صحفية كهذه، ومع ذلك كان لزاماً علينا الأخذ بأهم المطالب الضرورية للسكان في هذه الشعاب القفرة، والتي اوردها الشيخ محمد في حديثه معنا وتتمثل بالتزامات وردت في وثيقة الصلح ولم تف الجهات المسؤولة بالدفع للتعويضات المالية البالغة إجمالاً لكلا الطرفين مبلغا وقدره 12 مليوناً ومئة ألف ريال لا غير، وهذا المبلغ مقابل مناصفة بين الاحزوم والاكروب، ومنه ما حدد كتعويض للقتلى والجرحى من الطرفين ومنه أيضاً كتعويض عن المنازل المهدمة وبواقع مليونين ومئة ألف للاحزوم ومليون وخمسمائة ألف ريال للاكروب، ولأن هذه التعويضات تأخرت كثيراً عن أصحابها لذلك فهناك البعض ممن بدأ يرمي بأصابع الاتهام نحو المشايخ من الجانبين مضمونه استلام المشايخ لهذه التعويضات أما بقية الالتزامات المقطوعة الأخرى فقال الشيخ راوح والغصة بحلقه إن الأهالي ينتظرون ما سبق لقيادة السلطة ممثلة بالمحافظ التوجيه به، والتزمت الجهات التنفيذية بإنجاز هذه المشروعات الحيوية والهامة مثل حفر البئرين في المنطقة وإنشاء مجمع تعليمي ووحدة صحية إضافة إلى حاجزين وسدين لخزن مياه الامطار وخزانين آخرين للإيفاء بالاستخدامات الصغيرة.

وبينما الشيخ مسترسل في حديثه انبرى صوت آخر من بين الجالسين بدا غير واثق من وسائل الإعلام في نقل الصورة كما هي، خاصة بعد تلك المطالب والاحاديث التي تجشمت إحدى الصحف عناء المسافة الطويلة لأجلها دونما فائدة ترجى في نشرها حتى اللحظة، حيث ظل المتحدث يلقي كلماته بانفعال شديد.. خلته في البداية شخصاً قانطا ويائساً من كل من حوله من البشر أو أنه واحد من جماعة رافضة للصلح أو أنه غير مدرك بقصد أو بغير قصد لعظمة ما أنجزه أهله في سبيل الحصول على لحظة زمنية مثل هذه التي ينعمون بها ونحن وسطهم، وبلا خوف أو سلاح، ولكن سرعان ما تبددت تلك المخاوف بمجرد معرفة وظيفته كمدير للمدرسة الوحيدة. أما وقد عرفت أسباب ثورته وغليانه فحسبي القول إن تلك الكلمات نابعة من واقع مؤلم، وأكثر ما يتطلب المعالجة السريعة لنفوس وعقول أناس نحسبهم على عصرنا وإذا بهم مختلفون في كل شيء .. حياتهم، تخلفهم، طريقة معيشتهم، مطالبهم وتطلعاتهم، ويكفي الاستاذ خالد محمد الاشارة إلى أن المدرسة الاساسية التي يديرها تضم في جنباتها 150 طالباً موزعين على ستة فصول دراسية 1-6 بينما مكونات المبنى لا تزيد عن ثلاثة فصول تعليمية إلى جانب الملحقات، ويغطي هذه الكثافة 4 معلمين وبواقع معلم لفصلين وبدون كتب أو كراسي.

فيما الوالد عبدالله محمد المسلمي يضيف وبكلمات ساخرة: وعلى نفقة المرحوم هائل سعيد الذي تكفل ببناء المدرسة اليتيمة، أما المرضى فيتم نقلهم إلى تعز لأبسط الامراض.

ودعنا الشيخ وأهل بقيلان البسطاء وبمعية رفقة الرحلة الثلاثة وآخرين من شباب القرية، وعرجنا في ختام جولتنا على بقايا قرى سادت ثم بادت ولم يتبق منها سوى بعض أطلال أو احجار، فيشير مرافقونا تارة لمنازل كانت في هذه البقعة وهدمت كلياً وأخرى لقرى تم تسوية بيوتها بمستوى الأرض، وكان هناك ذات يوم أو عهد بيوت عامرة، وهناك فوق هضبة الجبل كانت العيون ترقب الموت كل لحظة، وفي هذه الزاوية كانت مساكن آل الحازمي قبل عقود من رحيلهم، وفي هذا المكان كانت ديار آل الكربي قبل الخراب والدمار الذي حل عليهم خلسة وآثر البقاء والاستيطان..قرى عديدة تجدها مدونة ولها أسماء مثل شعرة وصافح والمعمر والرز والكدحة والجوفي والربابه وذي جدار والهجرة والسنام وحبيل سعود وغيرها، الا أنها في الحقيقة أصبحت عبارة عن خرائب لا توحي بغير اللعنة والمأساة التي حلت على هؤلاء القوم.

أما الارض فحدث ولا حرج، فجلّ المساحات الزراعية طالها الاهمال أو جرفتها السيول، ورغم محاولة استصلاح ما أفسده الدهر ، قُدر لهذه الجهود المبذولة أن تصطدم منذ الوهلة الأولى، فبعد استصلاح بعض من أرض آل الحازمي حتى يتمكنوا من فلاحتها والعودة لمضاربهم للبناء والاستيطان كانت حراثة الجمعية التعاونية بالحشأ قد توقفت في مكانها دونما قدرة على على استئناف العمل في الأرض الموعودة بالحياة، إذ وبحسب تأكيد الاهالي ينتظرون إصلاحها من عطب أصابها بعد فترة شهر أو أكثر من بداية عملها.

عدنا ثانية صوب بقيلان بعد أن علمنا أن الطريق الأخرى المؤدية لمنطقة تورصه المجاورة والداخلة في نطاق مديرية الأزارق مقطوعة منذ فترة وجيزة بفعل السيل، لذلك عدنا أدراجنا من حيث أتينا فكان قدرنا المرور بطريق طويلة في عزلة مترامية الأطراف مثل عزلة عمارة بمديرية الحشأ والتي كنا محظوظين برؤيتها وهي مكتسية حلة خضراء، فيما الطريق تتخلله المياه الجارية أسفل إطارات السيارة والهواء العليل الممزوج بقطرات السماء والتي بحق اعادت لنا أرواحنا المنهكة والمتعبة، مثلما اعادت الحياة والمرح لقلب الشيخ عبدالله المشرقي، أو كما اناديه بالحاج متولي الذي لم يخف هو الآخر ولعه بالنسيم العليل الذي عاد به لسنوات مضت من عمره الجميل والطويل بإذن الله.

وثيقة الصلح
قضت وثيقة الصلج الموقعة من قبل خمسة مشايخ عن كل الأطراف إسقاط القتلى الذين سقطوا قبل قيام ثورة 26 بستمبر وعدد سبعة من الجانبين والحكم بتعويض 7 مليون مناصفة عن 14 قتيلاً مناصفة وتعويض المصابين وعددهم 9 من الاكروب بمبلغ مليون ريال و3 من الاحزوم بمبلغ 500 ألف ريال، وتعويض الاحزوم عن المنازل بمبلغ 2 مليون و100 ألف ريال والأكروب بمبلغ مليون و 500 ألف ريال بإجمالي عام قدره 12 مليوناً ومئة ألف ريال تدفع من خزينة الدولة. وتم التسامح والتوقيع من المشايخ أمام قيادة المحافظة وبحضور المحكمين وهم محافظ المحافظة وعضوا مجلس الشورى والنواب الأخوان محمد اسماعيل وعبده الحذيفي والأمين العام للمجلس المحلي وقائد اللواء ومدير الأمن ومشايخ وأعيان مديرية الحشأ والضالع.

الشيخ علي غالب الحازمي، شيخ قبيلة الاحزوم التي مازالت مشردة في مديرية الازارق قال لنا: إن جميع ما تحدث به الشيخ راوح يعد هماً واحداً لكلا الطرفين، حيث يتطلب في المقام الاول تنفيذ تلك الالتزامات الواردة في الوثيقة، وهي مطالب بسيطة مقارنة مع حجم المعاناة أو ما يتم انفاقه من خزينة الدولة لأشياء لا يستحق ذكرها، أما ان نقول 12 مليوناً كتعويضات للقتلى والجرحى والمنازل فهذا باعتقادي أضعف الايمان تجاه قضية شائكة وتسببت لنا جميعاً بكل هذه الصورة الموجودة على الواقع من بؤس وفقر وحرمان وخوف، ويكفي الإشارة الى أن الفرد البسيط المنتمي للقبيلتين فرض عليه حمل السلاح أينما وجد، أما إذا قدر وكان راكباً على سيارة أجرة فإن الركاب الآخرين يغادرون سيارة الموت خشية من رصاصات الثأر التي لا تفرق بين واحد وآخر، وها نحن اليوم كما تشاهد لسنا مدججين بالأسلحة والقنابل كما عهدتنا وهذه نعمة من الخالق علينا وعلى الذين سيأتون من بعدنا وعلى كاهلهم حمل ثقيل نتيجة الاوضاع المأسوية في المنطقة ولعلكم زرتموها ووجدتموها خرابة، مما يستوجب الدعم والمساندة من الحكومة والسلطة المحلية بل والتدخل المباشر للقيادة السياسية ازاء منطقة تخلفت كثيراً في كل شيء .. فلا مدرسة ولا مركز صحياً أو مشروع مياه أو طريقاً أو كهرباء، وحتى المنازل اللائقة بآدمية الإنسان غير متوفرة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى