رجال في ذاكرة التاريخ

> نجيب محمد يابلي:

> السلطان صالح بن غالب القعيطي: باني دولة المؤسسات...المولد والنشأة استناداً لشجرة الأسرة القعيطية اليافعية حسبما وردت في كتاب (السلطان علي بن صلاح القعيطي) لمؤلفيه د. محمد سعيد القدال وعبدالعزيز علي بن صلاح القعيطي (ص 143) فإن عميد تلك الأسرة هو عمر بن عوض القعيطي (الأول) ومن نسله جاء السلطان صالح بن غالب بن عوض بن عمر بن عوض القعيطي وهو من مواليد حيدر أباد (الهند) عام 1301هـ (1884م).

نشأ السلطان صالح نشأة كريمة في ظل عناية والده، واهتمام بالغ حظي به من جده الجمعدار عوض بن عمر (راجع الموضوع الذي أعده محمد سالم باحمدان عن السلطان صالح بن غالب القعيطي والذي نشرته «الأيام» في 31 مايو، 2003م).

التحق صالح بن غالب في السلك العسكري بانضمامه الى جيش حيدر أباد، وارتقى إلى رتبة «جمعدار» إلا أن شغفه بالعلم طغى على اهتماماته الأخرى فاحتك بكبار علماء الهنود وراح ينقب عن العلوم في بطون الكتب ونقلها من الحيز النظري إلى الجانب التطبيقي.

احتلت الأسفار جزءاً من حياة صالح بن غالب، وجنى منها الفوائد عندما سافر إلى مصر وتركيا والبلاد الأوربية فأنشأ جسوراً ربطته بعلماء تلك البلدان.

صالح بن غالب نائباً لعمه السلطان عمر بن عوض القعيطي
انتقل السلطان غالب بن عوض القعيطي إلى جوار ربه عام 1340هـ (حوالي 1923م) فآلت السلطنة إلى أخيه عمر بن عوض بحسب وصية الجد عوض بن عمر القعيطي وأسندت نيابة السلطنة إلى أبن أخيه الأمير صالح بن غالب القعيطي، إلا أن مركزه لم يسمح له بتحقيق طموحاته في عملية الإصلاح.

السلطان صالح بن غالب في ميزان هارولد انجرامس
ورد في مقدمة كتاب (حضرموت 1934-1935م) لمؤلفه هارولد انجرامس Harold Ingrams المستشار السياسي البريطاني المقيم في حضرموت وصاحب مؤلفات غاية في الأهمية والمرجعية عن اليمن عموماً وحضرموت خاصة: «ان أهم شخصيتين هما جلالة السلطان العبدلي في لحج والسلطان القعيطي في المكلا، وتفصل الأولى عن عدن مسافة عشرين ميلا شمالاً والثانية مسافة 300 ميل شرقاً، ويظهر جلياً أن السلطان العبدلي الذي يرأس المحمية سبق وأن بسط نفوذه على الجزء الغربي، كما أن السلطان القعيطي ربما يكون أهم حكام المحمية لأن له تأثيراً مباشراً على رعاياه أكثر من أي شيخ أخر، وتمتد مملكته - الإسمية- إلى مساحات اكثر ويحكم أطول طريق في المحمية..».

يتبين من تحديد الفترة أن الحاكم آنذاك كان عمه السلطان عمر بن عوض، لكن الراصد لمسيرة الحكم، سيجد أن للسلطان صالح بصمات محدودة في ظل نيابته للسلطنة وبصمات كبيرة أثناء توليه مقاليد الأمور في السلطنة طيلة عشرين عاما وحقق ما لم يحققه أي حاكم في عموم المنطقة.

السلطان صالح رجل الدولة والبناء
بنى السلطان صالح بن غالب مؤسسات الدولة لتصبح الدولة المؤسسية حيث أنشأ اكثر من 18 مؤسسة، وكان يدخل عليها التحسينات، سواء من حيث النظام أو التجهيز أو الابتعاث ليعكس بذلك نظراته العلمية في بناء الإدارة.

وفي مجال التعليم أنفق السلطان صالح ثلثي الميزانية على التعليم من أجل إقامة المدارس.

وفي جانب الصحة أنشأ مستشفى المكلا العام (مستشفى باشراحيل حالياً) واستقدم له الأطباء من الخارج ووفر له الأدوية والمستلزمات الطبية والسرر والأغذية، كما زوده بغرفة العمليات.

السلطان صالح رجل الثقافة الأول
يحسب للسلطان صالح بن غالب القعيطي إنشاء المكتبة السلطانية بالمكلا التي ضمت آلاف العناوين في مختلف فروع المعرفة وفتحت أبوابها للراغبين في القراءة والبحث، كما أقام السلطان صالح مكتبة سلطانية أخرى في الشحر وتوسعت بذلك قاعدة القراء وطلاب المعرفة.

كما يحسب للسلطان صالح انتشار الأندية الثقافية في عهده، منها نادي الإصلاح واتحاد الشباب وجمعية الثقافة ومن أبرز العوامل المساعدة للسلطان في مشاريعه الثقافية حب الحضارم للعلم والثقافة.

ارتفع عدد الأندية الرياضية في عهد السلطان صالح، ولتعزيز التوجه المؤسسي للدولة انشئت «الجمعية الرياضية» وسنت اللوائح وأقيمت المحاضرات والندوات في سبيل نشر المعرفة بأسرار الألعاب الرياضية، وقد حدثني الأخ صالح عبدالله التوي، أحد رموز الفرقة الموسيقية السلطانية: «أن أول من ادخل لعبة الكرة الطائرة الى حضرموت هو الأستاذ محمد سعيد مديحج وانطلقت من الفرقة الموسيقية السلطانية. كنا نمارسها عصر كل يوم في عهد السلطان صالح».

السلطان صالح وتجربة الإنتاج السينمائي
أفادني الأخ صالح عبدالله التوي أن السلطان صالح خاض تجربة الإنتاج السينمائي عام 1952م بقصتين من تأليفه وهما: 1- عبث المشيب،2- المكلا في العصر الذهبي، ومن إخراج الاستاذ عيسى مسلم عوض بلعلا وقام بالتصوير محمد عبدالعزيز (والد الأستاذ خالد عبدالعزيز) وقام بالتمثيل طلاب المدرسة الوسطى الذين لم يسعفهم الحظ لاستكمال دراستهم خارج السلطنة.

أضاف التوي : «التقطت مناظر الفيلمين في قصر السلطان بالغيل وقصر الباغ في المكلا وفي متنزه فوة ومتنزه الديس ومتنزه النقع. أدخل السلطان لقطات جميلة تمثلت ببعض الرقصات الشعبية مثل العدة والشبواني والشرح القطني والشرح الساحلي والشرح الحجري والزوامل اليافعية والحضرمية».

واختتم التوي إفادته: «قام السلطان العالم والمبدع بصنع الكاميرا بنفسه فقد كان بن دهري، حداداً وميكانيكياً بالغ المهارة وكان يقوم بتنفيذ أفكار السلطان التي يرسمها على الورق.

بعد اختتام تصوير الفيلمين عمل السلطان صالح على عرضها للجمهور في ساحة القصر السلطاني في مناسبات الاعياد وفي زيارة سالم بن عمر في الشحر وزيارة النقعة في غيل باوزير وزيارة الحول في سيئون. كما شاهد عرض الفيلمين علي أحمد باكثير والمؤرخ صلاح البكري والشاعر حداد بن حسن الكاف والتاجر باخشب، الذي أهدى كل فرد من افراد الفرقة السلطانية بذلة وطربوشا تعبيراً عن إعجابه بأدائهم في الفيلمين. ونال الفيلمان استحسان عامة الناس وخاصتهم».

السلطان صالح والبنية التحتية للإدارة
يحسب للسلطان صالح بن غالب القعيطي جهوده الحثيثة المثمرة في بناء البنية التحتية للإدارة فأنشأ إدارة البريد والطرقات وشبكة الكهرباء، وكانت السلطنة السباقة بإدخال خدمة الكهرباء في معظم مناطق الجزيرة العربية ولم تسبقها في تلك الخدمة إلا مستعمرة عدن، كما أنشأ إدارة الجوازات، التي صدر عنها جواز الدولة القعيطية.

من ثمرات جهود السلطان صالح المؤسسية ظهور المجالس البلدية في عموم أرجاء الدولة، حيث مارس السكان حقوقهم في المشاركة الشعبية في الحكم، وصدرت في عهد السلطان صالح العديد من القوانين والتشريعات وتجسدت على أرض الواقع دولة النظام والقانون.

السلطان صالح وأحداث ديسمبر 1950 المؤسفة
قاد الحزب الوطني الحضرمي مسيرة سلمية في ديسمبر1950م احتجاجاً على تعيين القدال باشا مدير المعارف وزيراً للدولة القعيطية (سوداني الجنسية) ليحل محل السيف العماني الذي انتهت خدماته ودعت المسيرة إلى تعيين وزير دولة محلي. ناهضت المستشارية البريطانية والقصر المسيرة ونزلت قوات الأمن لتقمع المسيرة وسقط عدد من الشهداء والجرحى.

عاش السلطان فترة حزن على تبعات تلك المسيرة وعافت نفسه الطعام طيلة يومين بحسب رواية محمد سالم باحمدان (راجع موضوعه الذي نشرته «الأيام» في 31 مايو 2003م) وللتاريخ القول الفصل غداً، لأن روايات تلك الأحداث صدرت في ظروف لا تسمح بالحيادية.

السلطان صالح الحاكم الموسوعة
كان السلطان صالح بن غالب حاكماً موسوعياً، فصدرت له مؤلفات في مختلف فروع المعرفة منها: 1- مصادر الأحكام الشرعية (في ثلاثة أجزاء). 2- الآيات البينات على وجود خالق الكائنات. 3- مبحث وجود التعبد بالآحاد. 4- تفسيرات مفردات القرآن الكريم بالعربية والاوردية (مخطوط). 5- الملاحة البحرية.

للسلطان صالح عدة أعمال في مجال الهندسة منها: 1- تعريب مذياع أهل الشحر. 2- صناعة زورق زوده بمحرك اسماه «الاصلاح». 3- صناعة عطب مولدات الكهرباء. 4- أنشأ عام 1956م مصعداً عضلياً (لا يزال موجوداً) 5- صناعة مدرج صوتي للغة العربية. 6- له مؤلف في علم الهندسة (لا يزال مخطوطاً).

كان السلطان صالح ملماً إلماماً لا يستهان به في الفلسفة والفلك والفيزياء وعلاج بعض الأمراض وكان لديه مختبر صغير لقياس نسبة السكر.

السلطان صالح وشمس الغروب
ارتبط السلطان صالح بن غالب بعدن في العامين الأخيرين من حياته، كانت الأولى في أواخر ابريل 1954م عندما شارك في استقبال جلالة الملكة اليزابيت الثانية عند زيارتها لعدن واصطحب معه الفرقة الموسيقية السلطانية التي عزفت السلام الملكي عند وضعها لحجر الأساس لمشروع مستشفى الملكة اليزابيت بخورمكسر (مستشفى الجمهورية حالياً) وقبل تناول مأدبة الغداء التي أقامها على شرفها وألي عدن حينئذ، السير هيكين بوتام.

وكانت الثانية عندما اعتلت صحة السلطان صالح وغادر المكلا بعد ظهر 22 مايو 1956م إلى عدن حيث أجريت له عملية جراحية مات على إثرها في 27 مايو 1956م، فتم تغسيله وتكفينه وإرساله مجهزاً إلى قبره صباح اليوم التالي. (باحمدان - مرجع سابق)

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى