قراءة (موجزة) لميزانية محافظة عدن (1999-2003م)

> «الأيام» د.محمد عمر باناجه:

> أعدت هذه المقالة- القراءة- للنشر بطلب من مدير تحرير صحيفة «الأيام» بعد أن حالت أسباب فنية دون نشر مداخلة كاتبها ضمن المداخلات المنشورة للندوة التي رعاها منتدى «الأيام» حول ميزانية م/عدن.

الحديث في الموازنة (عامة كانت أم محلية)، لن يغدو حديثاً جاداً ومفيداً ما لم تكن الأرقام محورة، لأن الرأي المتمخض عنه لن يعتد به، فهو في الحقيقة لن يعدو عن كونه انطباعاً، مبعثه - بالأساس- القناعة الذاتية للمتحدث.

وليس كل الأرقام يمكن أن تكون محوراً عند الحديث حول الميزانية، إذ أن الأرقام -ذاتها- إذا ما تم عرضها من المتحدث بصورة مجردة دون تحليل، فإنها هي الأخرى تكون وسيطاً غير ذي نفع، لأنها ليس فقط تبدو بكماء لا تعبر عن ذاتها في شيء، بل الأنكى من ذلك أنها تغدو مضللة فيما إذا لم يحسن قراءتها.

من هنا يستلزم الأمر، عند تناول أرقام الميزانية، أن يجرى عليها الباحث تحليلاً معمقاً من زوايا عدة، حبذا لو كان مقارناً، من حيث الزمان (عبر بيانات سلسلة زمنية) أو من حيث المكان (عبر بيانات عدد من المحافظات إن كانت الميزانية محلية، أو عدد من الدول إن كانت الموازنة عامة) وذلك بغية تحويلها من أرقام مجردة - بكماء أو مضللة - إلى معلومة لها دلالاتها، معلومة تتيح للمخطط المالي مجالاً رحباً لاستكشاف مكامن الخلل في الميزانية. وتبعاً لذلك يتمكن- لاحقاً- من تجاوز كافة الاختلالات التي تعيق تحقيق هدف رفع كفاءة الموارد والاستخدامات بغرض التأثير الإيجابي على التنمية.

تأسيساً على هكذا منهج، تعالوا بنا - إذن- نحلل مسار تطور ميزانية محافظة عدن من واقع البيانات الرسمية للإيرادات والنفقات خلال الأعوام (99-2003م). ولما كان الحيز المتاح لا يسمح بتحليل بنود الميزانية بتفصيلاتها، فإننا نكتفي- هنا- بتحليل الأرقام الإجمالية للإيرادات والنفقات العامة والتي أظهرتها المصادر الرسمية على النحو التالي(ملحوظة: آخر بيانات نشرت رسمياً كانت لعام 2003م):

جدول(1)
إذا كانت تلكم هي أرقام الميزانية لمحافظة عدن خلال الأعوام (99-2003م)، فكيف - إذن- يمكن استنطاقها، وتحويلها من أرقام مجردة إلى معلومة لها دلالاتها المتنوعة؟

هذا ما سيفصح عنه التحليل الذي أجريناه على تلكم الأرقام من بعض الزوايا - وليس كلها- تقيداً بالمتاح من الوقت، وبالمتاح من مساحة النشر.

1- تحليل الفجوة بين الإيرادات والنفقات:

يلاحظ أنه خلال السنوات 2001، 2002، 2003، زادت الإيرادات بمعدلات أكبر من زيادة النفقات. فبعد أن كان الفائض يشكل نسبة 78% في عامي 1999، 2000م، أصبح في عام 2001م يشكل نسبة 129%، ثم ارتفع في العام التالي(2002م) لتصل نسبته إلى 280% وفي نهاية سنوات الفترة المبحوثة شكل الفائض نسبة 190%.

الأمر الذي يفصح عن اتساع مستمر للفجوة بين الإيرادات والنفقات لصالح الإيرادات، بينما كان يفترض- إن لم يكن تقليصها- على الأقل الإبقاء على معدلاتها السابقة.

ذات التحليل يعطينا دلالة أخرى، مفادها أن كل ريال من النفقات العامة لمحافظة عدن كان قد جلب للمحافظة كإيرادات عامة في موازنتها، في الحد الأدنى 1,78 ريال وفي الحد الأعلى 3,8 ريال خلال سنوات الفترة المبحوثة (أنظر الجدول 1) .

الجدول (2)
2- كيف بدا مسار النمو للإيرادات والنفقات خلال الفترة؟!

أظهرت التحليلات أن معدل النمو السنوي للإيرادات ظل يفوق معدل النمو السنوي للنفقات في معظم سنوات الفترة المبحوثة(99-2003). بل إن النفقات في عام 2002م كانت قد سجلت معدل نمو سالب، حيث انخفضت مقارنة بما كانت عليه في 2001 بنسبة 5,2%، الأمر الذي يتطلب من القائمين على شأن الميزانية في المحافظة البحث عن الأسباب التي حالت دون تحقيق هدف المواءمة بين معدلات نمو الإيرادات ومعدلات نمو النفقات. أنظر الجدول (2).

3- هل الزيادة في النفقات حقيقية أم أنها منفوخة بالتضخم؟

استناداً إلى بيانات المصادر الرسمية حول التضخم، فإن الصورة تبدو واضحة من خلال الجدول التحليلي رقم (3)، لقد التهم التضخم جزءاً من الزيادة في النفقات الرسمية في عامي 2003,2000م، بينما التهم كل الزيادة التي حدثت في الأعوام الأخرى.

حيث انخفضت النفقات (الحقيقية) في عام 2001 مقارنة بما بلغته النفقات (بالأسعار الجارية) في عام 2000م بنسبة 2,3%، كما انخفضت بنسبة17,7% في عام 2002م مقارنة بما بلغته بالأسعار الجارية في عام 2001م. (انظر الجدول (3).

قبل أن أنتقل إلى زاوية أخرى من زوايا تحليل ميزانية م/عدن، أود أن أستعين بالاستنتاج الوارد أعلاه بشأن التضخم لمحاججة أصحاب الرأي القائل أن المساهمة الحكومية في الاقتصاد عبر نفقات الموازنة (العامة والمحلية)، ربما تصل إلى مستوى لم يعد الإقتصاد يستوعب أكثر منه. وعليه فإن المخطط المالي يقرر أن تكون نفقات الموازنة المخططة للعام التالي بنفس مقدار النفقات الفعلية للعام المنتهي.

إن هكذا قرار ربما يكون مقبولاً - أحياناً- في بعض البلدان التي تكون فيها معدلات النمو السكاني والتضخم منخفضة. أما في بلاد كاليمن، فإنه ليس فقط، يتعارض مع متطلبات التنمية، بل إنه أيضاً لا يستقيم مع أي منطق اقتصادي.

حيث لا يمكن التأشير على سقف الإنفاق انطلاقاً من بيانات سابقة له دون احتساب معدلي التضخم والنمو السكاني على الرقم التأشيرى، وإلا فإن المخطط المالي يكون قد وقع في خطأ جسيم له مترتبات خطيرة على الاقتصاد والتنمية.

4- الوزن النسبي للإنفاق الاستثماري والرأسمالي في نفقات الميزانية:

إن ثقافة الاستهلاك التي سيطرت وما فتئت تسيطر على المخطط المالي في اليمن، تجسدت في رؤيته تجاه فلسفة الميزانية (الدور والأهداف) فبدلاً من أن يقوم بتوزيع بنود الميزانية لصالح حفز الاقتصاد، وتأمين متطلبات التنمية عبر زيادة النفقات الاستثمارية والرأسمالية، نجده باستمرار يتحيز لصالح بنود الإنفاق الاستهلاكي (الجاري). الأمر الذي ينعكس سلباً على كفاءة الميزانية نحو تحقيق أهدافها.

وهذا المنحى، إن كان يتجلى بصورة واضحة في المؤشرات التقديرية للموازنة العامة والميزانيات المحلية - كما يشير عدد من الدراسات- فإنه - أيضاً - أخذ يتجلى في مؤشرات الإنفاق الفعلي لبند النفقات الاستثمارية والرأسمالية وليس أدل على ذلك من النتائج التي أظهرتها التحليلات التي أجريناها على ميزانية محافظة عدن (أنظر جدول 4).

إذ تشير بيانات التنفيذ الفعلي إلى أن الإنفاق الإستثماري والرأسمالي ما فتئ يحتل وزناً محدداً في الميزانية، إذ لم يتجاوز هذا النوع من الانفاق عشر (10،0) إجمالي النفقات العام للمحافظة طيلة الأربع السنوات الأولى من الفترة (99-2003م)، الأمر الذي يفسر بوضوح أسباب عدم كفاية الخدمات العامة والاجتماعية المقدمة للسكان (التعليم، الصحة، الكهرباء، المياه.. الخ) وتدني جودة القائم منها.

وما ينبغي التنوية إليه هنا، أن القصور في ذلك، ليس سببه محدودية ما يخصص للمحافظة كنفقات استثمارية ورأسمالية، فهذه رغم شحتها- من وجهة نظرنا- إلا أنها مع ذلك لا تستغل إلا بمعدلات ضئيلة، كما سيتبين في الفقرة التالية.

5- الإستثمارات الحكومية (المركزية والمحلية) في م/عدن:

عند تحليل المؤشرات المالية للبرنامج الإستثماري، قفزت إلى الذهن مجموعة من الأسئلة، ولكن دعونا نتركها لحين انتهاء الحديث. فلربما تجد إجابات لها في سياق عرضنا للإستنتاجات التي توصلنا إليها، الموجزة بالآتي:

- هناك مخصصات مركزية لبعض مشاريع المحافظة لم يستغل منها شيء (الكهرباء، الأشغال والطرقات، المالية،...) فبماذا يـُفسر عدم استغلال المخصصات المركزية للمؤسسة العامة للكهرباء بعدن، في الوقت الذي تعاني المدينة أشد الأمرين من نوعية الخدمة التي تقدمها المؤسسة.

- بقية المشاريع لمكاتب الوزارات، لم تتجاوز نسبة الإنجاز (استغلال المخصصات المركزية) فيها 50% وإن تفاوتت من مكتب لآخر، حيث وصلت في أدناها في التربية والتعليم (5,8%)، وفي أعلاها في جامعة عدن (46,2%).

وهناك يبرز - أيضاً- نفس السؤال، كيف نفسر عدم استغلال المخصصات المركزية لتنفيذ مشاريع التربية والتعليم في عدن؟ على الرغم من الصعوبات الجمة التي يعاني منها هذا القطاع، إن كان من حيث نقص المدارس والصفوف، أو من حيث سوء حالات القائم منها، أو في عدم توفر الظروف الملائمة للتعليم حتى في حدها الأدنى في بعض المدارس (سوء حالات الحمامات، عدم توفر مراوح للسقوف، تهالك أو عدم وجود التجهيزات الأخرى.. الخ)

- فيما عدا ما تقدم، تم استغلال المخصصات المركزية لمشاريع بعض المكاتب الأخرى (الصناعة ، الهيئة العامة للمنطقة الحرة ..الخ) بنسب متفاوتة تتجاوز جميعها 50%. وبصورة عامة يمكن القول أن متوسط نسبة استغلال المخصصات المركزية المرصودة في الخطة الاستثمارية لعام 2003 لمشاريع عدن لم يتجاوز 17,3%.

- بالنظر إلى مستوى استغلال المخصصات المحلية المرصودة لمشاريع المحافظة، فقد كانت الصورة أفضل- نسبياً- إذ بلغت نسبة استغلال المخصصات المحلية لمشاريع الأشغال العامة والطرقات 213,7% المالية 97,7% وفي بقية المشروعات تراوحت بين 51,9% - 75,4%(أنظر جدول 5).

في المحصلة النهائية لتحليل البرنامج الاستثماري لمحافظة عدن، يبدو أن الأسئلة التي فرضت نفسها علينا عند التحليل ما برحت تبحث عن إجابات لها.

أين تكمن أسباب القصور في عدم استغلال مخصصات الخطة الاستثمارية لمشاريع م/عدن ؟

أفي المبالغة عند وضع التقديرات؟ أم في سوء توزيع المتاح؟

أهي في ضعف متابعة المعنيين بشأن التنفيذ؟ أم في تدني كفاءة النظام المالي المتبع في البلاد وآليته المقيته المعروفة بالتعزيز المالي، التي لا تنتج إلا الروتين الطويل والفساد بأبشع صوره؟ أم هي في كل تلك الأسباب مجتمعة !!؟

أستاذ مشارك الاقتصاد المالي والنقدي-جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى