مشاكل الاراضي توضيحات لصورها ومعالجة لإشكالاتها

> «الأيام» عدنان غالب العامري:

> موضوع مشاكل الأراضي متعدد الأطراف ومتشعب الاتجاهات، وفيه من الألاعيب الشيء الكثير، ومسألة التطرق لكل مشكلة ولكل حبكة وشراك على حدة، يحتاج إلى الكثير من الكتابات والتوضيح وضرب الامثلة المختلفة لتبسيط الموضوع، وتقريب الفكرة للقارئ ليسهل بعد ذلك فهمها وإدراك كل جوانبها وأطرافها، ونحن على استعداد لنساهم بتوضيح هذه القضايا بشكل مختصر، لعل ذلك يفيد الآخرين من الحوادث التي سبقت النزول على رؤوس غيرهم، ومن خلال أيضاح هذه المعلومات التي قد يكون لا يدركها البعض أو لم يأخذوا حذرهم منها، بشكل واضح ودقيق وبالتالي نجنبهم الوقوع في فخ وشراك صناع هذه المشاكل .. في هذه الحلقة سوف نتحدث عن طمع وجشع الملاك الأصليين بإقدامهم على الاستيلاء على ما سبق بيعه للآخرين أو مقاسمتهم للزيادات المتحققة من ارتفاعات أسعار الاراضي بطريقة التحايل والمكر والخداع وبأساليب لا يجيزها دين ولا شرع ولا عرف ولا عادة وذلك من خلال القيام بالآتي:

الصورة الأولى: بيع فوق بيع لأراض خارج المدن الرئيسية وبعيدة عن المخططات الحضرية.. نجد بعض الموظفين الذين يستهويهم شراء وبيع الأراضي يتتبعون أخبار المخططات الحضرية للمناطق الخارجة عن المدن، وعندما يسمعون خبر اقتراب هذه المخططات من منطقة ما يسارعون لشراء الاراضي بتلك المنطقة ويضموا إليهم زملاءهم وأقاربهم وكل من عنده القدرة على الشراء ويذهبون إلى تلك المنطقة يبحثوا عن الملاك الأصليين، وعندما يجدون واحداً من ملاك الاراضي يخبرونه برغبتهم في شراء ألفين قصبة مثلاً فيرد عليهم بأن سعر القصبة الواحدة عشرة آلاف ريال، وإذا رغبوا في شراء أكثر من ذلك فهو مستعد لتلبية طلبهم حيث إن المنطقة التي قصدوها أغلبها ملك له، ومساحتها تزيد عن عشرين ألف قصبة، فيتم الاتفاق على الشراء لعدد خمسين موظفا كل واحد منهم تحرر له وثيقة تمليك بأربعين قصبة، ويختارون المكان المناسب ويدفعوا القيمة الكلية للارض وقدرها عشرون مليوناً، فيقوم هؤلاء الموظفون بعد ذلك بعمل إجراءات الحجز بواسطة أحجار أو بلُك.. كل بحسب قدرته، ويتركون هذه الارض للأيام القادمة حتى يصل المخطط الحضري إليها على أمل أن ترتفع أسعارها، فيستطيع كل موظف منهم عند ذلك بيع جزء من الأرض لتغطية تكاليف بناء الجزء المتبقي معهم، وهكذا يبقى الامل يراودهم عدة سنوات، ويتباهون بأنفسهم أمام الآخرين لتحقيقهم هذا المشروع ويتحدثون عن ذكائهم ودقة تقديراتهم للأمور وحسابهم الجيد للمستقبل، ومع مرور سنة أو خمس أو عشر تدرج هذه المنطقة فعلاً ضمن التخطيط الحضري القادم فيسمع بهذا الأمر واحد من المستثمرين أو قائد عسكري أو مسؤول حكومي كبير فيعمل مثل ما عمل الموظفون السابقون يبحث عن المالك الحقيقي للارض بتلك المنطقة ويتفاوض معه على شراء ثلاثة ألف قصبة مثلاً. فيوافق المالك على البيع وبدون تردد، فيشترط المستثمر هذا حصوله على الارض التي تقع في مقدمة المنطقة والتي سبق للمالك بيعها للموظفين، فيوافق المالك البيع بشرط أن تكون سعر القصبة ثلاثين ألف ريال أي بزيادة ضعفين عن ما سبق بيعه، فيقبل المستثمر بهذا السعر ويدفع تسعين مليون ريال القيمة الإجمالية لثلاثة آلاف قصبة. ويتم تحرير وثيقة التمليك وتعميدها في المحكمة الشرعية.. يلاحظ هنا أن البائع استفاد أربعين مليون ريال من إعادة بيع ما سبق بيعه وهذه الزيادة هي الحلم والأمل الذي كان يراود الموظفين المشترين لهذه الأرض، وهي الحق الشرعي المسلوب منهم بسبب هذا التصرف غير الإنساني الذي أقدم عليه هذا المالك الممتلئ قلبه بالطمع والجشع وعدم خوفه لا من خالق ولا من خلق، فهو وحش مفترس لحقوق الآخرين، بعيد عن الدين والأخلاق.. وقد يشترط هذا المستثمر على المالك البائع أن يبقي الارض القريبة من ملكه بدون بيع لغرض التوسع المستقبلي من قبله او لاستقدام مستثمرين آخرين ليكونوا بجانبه لتعمير تلك المنطقة وإنعاشها حضرياً.

هنا يقوم المستثمر بشق طريق بسرعة البرق للوصول إلى هذه المنطقة، ويقوم بمسح أرضية وتسويرها وإقامة الأساسات الاسمنتية لمنشأته العمرانية.. وعندما يتفاجأ الموظفون الذين سبق لهم شراء هذه الارض بهذا الأمر الواقع ماذا بمقدورهم أن يعملوا في ظل قضاء فاسد والحكم لصالح القوى؟

فإذا ما أقدموا على رفع أمرهم للقضاء بالبائع أو بالمستثمر لا يستطيعون الصمود أمام تطويل إجراءات التقاضي التي قد تصل الى سنين في مثل هذه الأمور.. فإمكانياتهم محدودة وقدراتهم ضعيفة أمام سالبي حقوقهم.

إذن ما هو الحل لهذه الاشكالية؟ الحل سوف يقوم به البائع مالك الارض ويتلخص في خيارين لا ثالث لهما، الأول أن يدفع لهم ما سبق وأن قبض منهم قيمة هذه الأرض قبل خمس أو أكثر من السنين، والخيار الثاني تعويضهم نفس المساحة التي سبق بيعها لهم وقدرها 2000 قصبة في مؤخرة المنطقة أي في المنطقة البعيدة عن التخطيط الحضري، وسوف يخبرهم بأن بقية المساحة من الأرض التي تقع ضمن املاكه قد تم بيعها بالكامل ولم يتبق إلا تلك المساحة المحددة في مؤخرة المنطقة. هنا لن يكون أمام هؤلاء الموظفين إلا القبول بأحد الخيارين المطروحين أمامهم. بهذا انتهى التوضيح لهذه اللعبة التي حبكها البائع، وافتراضنا اقتصر على بيع فوق بيع فقط، ولكن في الأمر الواقع هناك ما هو أشنع من ذلك قد يتعدد المبيع لثلاثة وأربعة مشترين، وتصوروا في مثل هذه الحالات كم من مشاكل ستظهر وكم أناس سيتحملون أضرارها، وإذا سألنا أنفسنا عن المتسبب في ضياع حقوق مثل هؤلاء البسطاء، سيوجه اصابع الاتهام لكتاب عقود التمليك ورؤساء المحاكم الشرعية وقضاة تعميد البيوع، فهؤلاء جميعاً نحملهم المسؤولية الكاملة في ضياع وإهدار حقوق الناس، لأن التقصير متعمد ومدروس من قبلهم، وهم على علم مسبق بما سيحدث بعد هذا التقصير من إشكالات ومنازعات كلها تعود عليهم بالنفع العميم، ومن مردوداتها يأكلون ويشربون ويبنون القصور والعمارات وعلى حساب حقوق الناس الضعفاء والبسطاء يثرون وتنمو تجارتهم وأملاكهم، ولو أخلص قضاة المحاكم الشرعية في عملهم وتحروا المزالق والثغرات، التي ينفذ من خلالها الملاك البائعون مرة ثانية وثالثة إلى أملاك من سبق البيع لهم ومن ثم أمتلاك القدرة على بسط أيديهم على ممتلكات الآخرين والاستيلاء عليها بالكامل، أو مقاسمتهم الزيادات في أسعار الاراضي مناصفة أو أثلاثاً أو أقل من ذلك أو أكثر، فتساهل قضاة المحاكم وتقصيرهم في سد الثغرات أمام أطماع الملاك هو الذي أوصلنا إلى هذه الحالة، فصيغ البيوع المهلهلة والفاقدة للجوانب القانونية أنزلت البلاء على رؤوس الناس وأدخلتهم في متاهات لا قبل لهم بإدراكها أو تجاوزها.

ولو وجد قضاء نزيه، يحترم حقوق ومصالح الآخرين، لما استطاع مثل هذا المالك البائع في مثالنا سابق الذكر، أن يبيع شبراً واحداً سبق بيعه للآخرين بل من المستحيل عليه ان يبيع قطعة أرض سبق بيعها وقبض ثمنها وحرر بها عقد تمليك في محكمة مختصة، لكن المسألة تسيب وضياع وتقصير.. إذن ما هي المعالجات وأين الخلل في هذه القضية؟

يلاحظ في هذه القضية وجود خللين الأول إجرائي والآخر تشريعي، الخلل الاجرائي متعمد وهو التقصير من قبل قضاة المحاكم والمتمثل في عدم قيد البيع الجزئي وتوضيحه على وثيقة التمليك الأصلية التي تبقى بيد البائع صاحب الملك الكلي، فمن الواجب والضرورة تدوين البيع الجزئي وتنزيله من وثيقة التمليك الكلية سواء كان ذلك على خلف الوثيقة أو على الهامش الأمامي أو على الفضاءات - الفراغ - على وجه الوثيقة، وبطريقة ذكية جداً تجعل من الصعب جداً على صاحب هذه الوثيقة طمس أو كشط أو محو أو قطع جزء من ورقة الوثيقة لإزالة العبارات والبيانات التي تفيد بأن مالك هذه الوثيقة قد باع من ملكه المحرر بها جزءاً لفلان وعلان.. وبما مساحته كذا وكذا.. ويشار إلى رقم قيد وثيقة البيع الجزئي وتاريخه وشهوده.. هذا الأمر ينطبق على من يمتلك وثيقة تمليك لمساحة صغيرة من الأرض لا تتجاوز مائة قصبة مثلاً وحدث منه البيع لشخص أو أكثر، وسواء كانت المساحة المباعة منها كاملة أو جزءاً منها في مثل هذه الحالة يمكن ذكر هذه البيوع بالتفصيل على خلف وثيقة التمليك الأصلية أو فراغاتها وهوامشها الأمامية وهذا هو الإجراء السليم الواجب اتباعه في إجراءات التوثيق والتعمير في المحاكم الشرعية، ويجب إلزام قضاة المحاكم للعمل به وعدم تجاوزه، وبهذا نكون قد سددنا إحدى الثغرات في وجه البائع الجشع وقطعنا عليه الأمل في تكرار البيع والتغرير والتحايل على الآخرين.

ولكن المشكلة تظهر عند من كان لديه وثيقة تمليك أرض تقدر مساحتها بعشرين ألف قصبة وعقد التمليك الذي بيده من الوثائق القديمة التي تكون بحجم راحة اليد أو أكبر قليلاً، فكيف يمكن أن تدون على هذه الوثيقة ما تم بيعة لمئات الاشخاص؟

لتنظيم هذه العملية يجب على القاضي الشرعي الإشارة على ظهر أو بطن وثيقة التمليك هذه بعبارة واضحة وبارزة تفيد بأن باقي مدونات وبيانات البيوع من هذه الوثيقة مدون بالمرفق رقم .. وعندما ينتهي شغل هذا المرفق بالبيانات يضاف مرفق آخر ويشار إليه بالسابق وهكذا بطريقة مسلسلة ومنظمة يدون فيها كل مبيع وجد بالتفاصيل الضرورية المختصرة المتعارف عليها في مثل هذا الأمر، ولكن في واقعنا المعاش هذا غير متبع، وهذا التقصير هو الذي جلب المتاعب والمشاكل لكل من أراد أن يمتلك قطعة أرض، ونتيجة لذلك استطاع البائع أن يتحايل على الآخرين ويكرر البيع دون أن يكون له ملك، أو يكرر بيعاً فوق بيع قد تم.

أما الخلل الثاني فهو تشريعي: ظهور الاشكالات المختلفة الناتجة عن عملية بيع وشراء الاراضي والعقارات والمباني.. مردّه قصور في بعض جوانب القانون المنظم لهذه العملية، حيث إن أي قانون يتطلب التجديد باستمرار لمواجهة الاشكالات العصرية والمرحلية ووضع التصورات المناسبة عند إدراك أي مشكلة ناتجة عن وجود ثغرة قانونية استطاع من خلالها مرضى النفوس النفاذ إلى حقوق الآخرين ومصادرتها كلياً أو جزئياً، ولسد مثل هذه الثغرات يتطلب صياغة مواد جديدة وإضافتها إلى القانون المنظم لهذا الجانب ويمكن الإشارة هنا إلى بعض الجوانب الواجب معالجتها وإعادة النظر فيها بطريقة قانونية تعمل حداًَ لكل هذا العبث وهذه الفوضى، وذلك من خلال تنظيم إجراءات شرعية كما يلي:

تصاغ مواد قانونية تنظم الامور التالية:

1- الشهود: شهود عملية البيع والشراء للاراضي والعقارات والمباني.. يجب أن يكون لهم خصوصية معينة وليس لمن هب ودب، فهذه العملية تتطلب حضور الملاك المحيطين بالملك المراد بيعه أو شراؤه ومن جميع الاتجاهات، أو
حضور من ينوب عنهم ويمثلهم من أقاربهم من الدرجة الأولى والثانية وحضور هؤلاء إلى مكان انعقاد البيع أو الشراء - محكمة، مجلس قاض، مجلس أمني شرعي، مجلس كاتب محرر عقود - سيضمن أولاً معرفة البائع والمشتري، وثانياً إتمام عملية بيع أو شراء صحيحة، ومن هؤلاء المطلوبين للحضور يتم اختيار اثنين منهم للشهادة والباقي تدون أسماؤهم بوثيقة البيع والشراء كحضور تمت العملية بوجودهم.
2- تحديد موقع الملك المراد بيعه: يكون التحديد بوجود المحيطين به من كل الجهات شرطاً رئيسياً أو من ينوب عنهم ويمثلهم ويكون التحديد بمسميات موحدة للجهات الأصلية شرق غرب شمال جنوب وترك العمل بالمسميات الأخرى المتداولة محلياً مثل قبلي، عدني، بحري، شام، يمن...

3- قياس مساحة الملك المراد بيعة بالقياس الدقيق، وتوحيد نوع أداة القياس ولتكن المتر وأجزاؤه ويتم القياس على الطبيعة ومن كل الجهات وتدوين هذه القياسات للمساحة بوثيقة التمليك، وهذا الأمر يبعد الاشكالات بين المشتري الجديد والمحيطين به وبين البائع وجيرانه السابقين.

4- الحجز: بعد الاجراءات السابقة يلزم المشتري قانوناً بحجز أرضيته من الجهات الأربع وعمل حجر أساس يدون عليه اسمه ويتغير ذلك بحسب تغيرات البيع إذا وجد. بهذه الامور يكون كل شيء واضحاً للجميع والمسؤولية مشتركة في حراسة مصالح بعضهم بعضا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى