حكايات المسنين دراما مؤلمة تصور جحود الأبناء

> «الأيام» فردوس العلمي:

>
حكايات المسنين دراما مؤلمة تصور جحود الأبناء
حكايات المسنين دراما مؤلمة تصور جحود الأبناء
«إذا فاتك سهم المنية قيدك الهرم» عبارة قالها الإمام علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه- وهذا ما شاهدناه في دار المسنين، ففي أول خطوة لك في الدار وأول نظرة تنظرها إلى وجوه المسنين نزلاء الدار ترى الكثير من الخيوط التي نسجها الزمان والتي من خلالها تستطيع قياس آلام المسنين أو قياس فرحهم، حين تراهم في فترة استراحتهم يجلسون كلا في فلكه يجتر الذكريات . دار المسنين الكائنة في حي الشهيد عبد القوى بمديرية الشيخ عثمان بعدن.. تحمل الكثير من الذكريات التي لازالت عابقة في أعماق المسنين، «الأيام» نزلت إلى الدار تستقرئ الذكريات وتسلط الضوء على فئة من المجتمع قدمت في أول سنوات حياتها الكثير والكثير وكان مصيرها دار المسنين. كيف وصلوا ؟ ولماذا؟ هذا ما حكاه نزلاء الدار وإدارة الدار .

الوالد احمد الخضر، من مواليد الشيخ عثمان تعدى السبعين ولكن مازال يتمتع بكافة قواه العقلية ويميز بين الخطأ والصواب وهو ما يحتاجه المسن في هذا العمر، وفي صدر المصلى كان ينتظر موعد صلاة الظهر وهو يقرأ القرآن، وعن سبب وصوله إلى الدار يقول بعد صمت طويل وكأنه يشيل عن كاهله هم السنين وينفض عنه الغبار: آه.. خليها على الله يا بنتي، أنا وحيد منذ أيام سالمين (بداية السبعينات).

ويحكي العم احمد الخضر وهو يستعرض شريط الذكريات التي بدأها بقصة زواجه: تزوجت أم العيال في مدينة التواهي بخمسمئة شلن أيام العز ، وكانت زوجتي من أب هندي وأم صبيحية .. رزقت منها بولدين عشنا معا سنوات قليلة ولكنها جميلة ولكن حرمني منها القدر إذ توفيت بانفجار الصبع الزائدة. وعن ولديه يقول: ماتا ولحقا بأمهما وتركوني وحيدا، ماتا وهم صغار لم الحق أن افرح بهما . يرفع يديه ويدعو لهم بالرحمة وبألم ومرارة يقول: الموت عز وأتمنى أن يعزني الله بالموت.. الحياة أصبحت مرة.

و يواصل حديثه: احمد الله.. أواظب على الصلاة ولا اقطع فرض ، فالله غني وأنا إن عبدته لن أزيد في ملكه وان لم اعبده لا ينقص من ملكه شيء، الله غفور رحيم والنية تسبق العمل لهذا جاء الحديث (إنما الأعمال بالنيات ). سألت العم أحمد: نحن في شهر رمضان..ولم أكمل سؤالي فقد فاضت في عينيه الدموع، ثم سكت برهة من الزمن تخيلتا دهرا ومن خلال دموعه وحشجرة الكلمات يقول: أنا مريض لا استطيع الصوم عندي ألم في المعدة .. عم احمد قبل الارتفاع المجنون للأسعار وقبل موجة الغلاء كان يصوم ويؤدي فرضه ولكن في هذا العام لم يستطع.. فقد وصل سعر شريط «الزنتك» وهو الدواء الذي يخفف عنها الألم إلى 150 ريالا.

مصافي عدن وشركة التجارة وأحواض السفن كلها مرافق عمل، عمل فيها العم أحمد واكتسب خبرته الطويلة في السواقة، يتنهد بعمق وألم وهو يفتح صفحة مؤلمة من كتاب حياته: لا ادري ماذا عملت لي عمتي وخالتي، ويبتسم وسط الدموع وهو يقول: شغل عرب يا ابنتي ، جعلوني أحس بالضيق وأكره الدنيا.

العم احمد إلى جانب معاناته من ألم المعدة يعاني من ألم في الركبة والتهاب في العين ادى إلى إصابته بالعمى بإحدى عينيه . وعن كيفية وصوله إلى الدار يقول: هذه ثاني مرة ادخل الدار فأول مرة دخلت الدار كانت عن طريق الأخ حميد الذي شرح حالتي للسيستر ولكن خرجت وها أنا أعود مرة أخرى إلى الدار. وعن حياته في الدار يقول: الحمد لله مرتاح وكل شيء متوفر. وقال: خلوني أموت هنا خلاص ما عندي رغبة في مواصلة الحياة وهنا أحسن من الشـارع .

في الركن الآخر كان جالسا ينظر الي بصمت وحذر وهو يسأل الأخ حميد: هذه البنت ليش تصور وايش تكتب ؟ قال له الأخ حميد: هذه مندوبة «الأيام» تعمل موضوع عن المسنين وتريد منك أن تتكلم معها. اقتربت منه وأنا أرى نظرة الخوف في عينيه، نظر لي وهو يقول: لا يا ابنتي لا استطيع لا تصورينا. وعندما سألته لماذا أجابني: ابني يقرأ الجريدة وأخاف يشوف ويصيح ويزعل وأنا ما احب ازعله وابنتي بالجامعة إيش با يقولوا؟ جلست بقربه وحاولت إقناعة بالحديث وأنا أعده بعدم ذكر اسمه. تحدث بصعوبة وهو يحاول أن يخفي دموعه ولكن هيهات.. قفزت دمعة تعلقت بأهدابه وحاول جاهدا أن لا تسقط ولكنها سالت.. دموع حارة.. تلعثم في الكلام وهو يقول بألم فاق حد التصور: عندي تسع بنات وولد ولكن حرمتهم أمهم مني بعد حصول مشكلة بين وبينها وبعد عشرة عمر وعشرة أطفال طردتني من البيت لأصبح شريد في الطرقات بعد هذا العمر. وعن كيفية وصوله إلى الدار يقول: كنت مريض في مستشفى الجمهورية وبعد أن طالت فترة بقائي فيها أرسلوني إلى هـنا .

وعن موقف أولاده يقول هم لا يستطيعون عمل شيء فأمهم متسلطة . تساءلت: ولكن أي أمي تستطيع أن تمنع أولادها من رؤية أبيهم كما حصل لهذا الأب المسن الذي تجاوز السبعين من العمر والذي لديه عشرة من الأبناء والبنات لم يعودوا صغارا فمنهم من تزوجن ومنهن من على مقاعد الدارسة الجامعية ؟ وكيف يقبلن بذلك رغم المأساة التي يعيشها هذا الأب يحاول بكل قوته أن يبرر لنا تخليهم عنه.. فيقول: هم لا يعلمون إني في دار المسنين فأنا اذهب لزيارتهم في بعض الأحيان .. ولكن حتى إذا علموا ماذا سيفعلون ؟ وعن سبب طرده من البيت يقول وهو يحاول أن يرسم ابتسامه باهتة: ( الحب).. وعندما رأى اندهاشي قال: من حبي لأم العيال سجلت البيت باسمها ومع أول مشكلة طردتني من البيت فقد استغلت حبي لها. سألته: لماذا لم تخبر أولادك عند زيارتك لهم ؟ قال وهو يرفع نظره: عندي كبرياء لا افرط به ولا أحب أن أتنازل لهم حتى لو كانوا أولادي. لا ادري كيف سألته: هل تشتاق لهم؟ تألم وفاضت عينه بالدموع، تألمت بشدة وأنا أراه يحاول أن يسيطر على دموعه ليقول: مشتاق لهم ولو لي جناح الطائر باطير لهم. قالها ولسان حاله يقول: قلبي على ولدي انفطر وقلب لدي على حجر.

امرأة عجوز في دار المسنين
امرأة عجوز في دار المسنين
في جناح النساء لا يختلف الحال فهناك نساء طال بهن العمر ليشهدن رحيل الأحباء وجحود الأبناء حيث أصبحت حياتهن فارغة وليس لديهن حتى القدرة على التذكر وما يلفت نظرك في هذا الجناح ان جميع النزيلات شعورهن مقصوصة ..

زينب تجاوزت السبعين ، سألتها: هل لديك أولاد؟ أجابت بقوة: ليس لي سوى الله وأخت واحدة وأنا تزوجت زواج لا يعلم به سوى الله ورزقت بولد واحد.. تنظر لي وهي تائهة في ذكرياتها.. لتقول: هي مشية الله استرجع أمانته. وعن حياتها في الدار تقول: الحمد الله مرتاحة ولا يعكر صفو حياتي سوى المرض الذي أجهدني .

اسمها جمعة، تعيش في أرذل العمر لا تستطيع أن تحدد سنوات عمرها ولكن في اعتقادي أنها تجاوزت التسعين، جمعة عمياء لا ترى دنياها سوى من خلال قلبها المليء بالإيمان ولسانها الندي بذكر الله، عندما جلست بقربها على السرير سلمت عليها فردت و بعد السلام والمباركة بالشهر الكريم قالت عن رمضان : هذا رمضان شهر الصوم والتراويح. وأطلقت لدموعها العنان وهي تقول بحرقة: لا استطيع الصلاة وأنا كنت أصلي. وجلست تعدد الصلاة التي كانت تؤديها. فقالت: كنت أصلي التراويح والنوافل والضحى 8 ركعات وصلاة التوابين بعد المغرب 6 ركعات واصلي الوتر بعد العشاء والقنوط. تواصل وهي تكاد تختنق من البكاء: اليوم لا استطيع أن أصلي حتى فرضي من كثر المرض لا استطيع الجلوس ولا استطيع أن استحم وحدي.

ورغم سنوات عمرها ورغم عماها تبكي بحرقة وهي تقول: قصوا شعري الجميل غصب عني. تبكي.. فهي لا تملك سوى الدموع. وتوصي الحجة جمعة أن تكفن من فلوسها من ثمن بيتها الذي باعته في قريتها وتقول عن شريط ذكرياتها: لم نتزوج لا أنا ولا أخي لنعتني بأمنا وبعد أن ماتت كنا أنا وأخي.. وهو الآخر تركني وحيدة ورحل عني. وتضيف: من عمل هذا الملجأ ربنا يجزيه خير ويسكنه الجنة. وطلبت منا أن نقرا له الفاتحة، سألتها هل تصومي؟ قالت: نعم أصوم.. فهذا رمضان .

في هذه الدار التي تضم 40 مسنا و20 مسنة ويحتوي على اربعة اجنحة اثنان منها للذكور وواحد للنساء والرابع للادارة والمرافق الاخرى، آلمتني العديد من الحكايات التي سمعتها في الدار فكلها تحكي دراما مؤلمة وتصور قهر الزمن و جحود الأبناء في حق من وهبهم الحياة واغلب المسنين في الدار تجاوزت أعمارهم السبعين لا يملكون سوى الدموع كلما استرجعوا الذكريات وإذا سألت احدهم عن أولاده يقول دون تردد: ماتوا وتركوني وحيدا. عشت هموم المسنين التي غرست في نفسي حزنا عميقا جعلني اردد: لا حول ولا قوة إلا بالله.. هل يستحق هؤلاء كل هذا الجحود والنكران من فلذات الاكباد ؟!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى