سبحان الله

> نجيب قحطان الشعبي:

> في 16 و17 أكتوبر الجاري توقفت أمام موضوعين صحفيين متسائلاً هل ما ورد بهما يعد توارد خواطر أم مجرد مصادفة؟ وعندما طالعت كلا الموضوعين كنت أقول: سبحان الله!

من شابه أباه فما ظلم!
في صحيفة «الثوري» (13 أكتوبر الجاري) وفي مقالي «فقراء اليمن أحق يا رئيس اليمن» أبديت عدم تأييدي لتحميل طائرتين بالمعونات الرسمية الدوائية والغذائية والبطاطين والخيام لضحايا زلزال باكستان وقلت إن تعاطفنا يجب أن لا يصل إلى حد تقديم المساعدات لباكستان أو للولايات المتحدة (إعصار كاترينا الذي أدى لفيضان اجتاح بعض مدنها) فمعظم الشعب اليمني فقير وبعضه لا يجد ثمن الدواء فهو أحق بالأدوية وبعضه يأكل من براميل القمامة فهو أحق بالاغذية وبعضه يبيت على أرصفة الشوارع والساحات العامة فهو أحق بالبطاطين والخيام، وقلت «الأقربون أولى بالمعروف» و«ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع».

وبعد 3 أيام صدرت صحيفة «17 يوليو» (16 أكتوبر الجاري) وبها الموضوع التالي «17 يوليو تنفرد بنشر كامل لأقدم لقاء صحفي مع قحطان الشعبي» واللقاء كانت نشرته صحيفة «الأهرام» المصرية في 19 سبتمبر 1964 (أثناء حرب تحرير الجنوب) أي منذ أكثر من 41 عاما، ومما قاله ما يلي :«معركة الجنوب هي معركة الشعب العربي كله ويجب أن تتصرف كل القوى الشريفة على أساس هذا الفهم وأن تقدم مساعداتها إلى الذين يناضلون في سبيل تحطيم الطوق الاستعماري المضروب من حولنا» ثم توقفت مذهولا- ولا أزال - عندما أشار بعد ذلك مباشرة إلى أنه من العار على الكثيرين أن لا يقدموا المساعدات لأشقائهم في الجنوب بينما «تدفعهم الشفقة إلى التبرع لضحايا كارثة فيضان أو زلزال في بلد بعيد عنهم وتحيق بغير أهلهم».

ويشهد الله على أنني لم أطالع الحديث المذكور لقحطان الشعبي - أو أعلم به- إلا من خلال صحيفة «17 يوليو» فسبحان الله .. سبحان الله.

أهم رمز للدولة
وطالعت في «الأيام» (17 أكتوبر الجاري) مقالا جميلا للأخ الأستاذ علي محمد يحيى بعنوان «أنا والرفيق ليم والعَلَم» .. جميل لأنه يؤرخ لحدث مهم عقب الاستقلال مباشرة هو استلام 50 جرارا زراعيا في عدن مهداة من كوريا الشمالية .. جميل لأنه يتحدث عن «عَلَم» الدولة وما له من أهمية .. جميل لأنه كتب بأسلوب سلس.

فالأخ علي (من وزارة الزراعة آنذاك) كان أحد المكلفين بالإعداد للحفل الذي سيحضره رئيس الجمهورية ليتسلم الجرارات (الحراثات) ويلقي كلمة شكر حماسية، وأشار إلى أن الرفيق (ليم) مدير مكتب وكالة أنباء كوريا الديمقراطية (الشمالية) بعدن طلب منه إحضار عَلَم الدولة ليُرفع بالحفل مقابل العلم الكوري فأحضر علما عرضه متر واحد فرفضه الرفيق وأراه العلم الكوري فكان بعرض 4 أمتار فعاد الأخ علي ليفصّل علماً بذلك العرض، لكن الرفيق وجد أضلاع النجمة الحمراء غير متساوية فذهب معه للخياط ليشرف على تفصيل نجمة أخرى.

وقال الأخ علي إن الرفيق ألقى عليه درسا في حب العَلَم واحترامه لأن حب العلم من حب الوطن، وتحدث -أي علي - عن مكانة العَلَم عند المواطن والدولة وقال «ففي معظم دول العالم لمكانته يرفع صباحا ويتم إنزاله مع غروب الشمس يوميا وكان هذا حاله قبل الاستقلال وبعده في المحافظات الجنوبية». وسبحان الله مرة أخرى فقبل مقال الأخ علي بأسابيع كنت أتحدث في مقيل إلى الإخوة الأعزاء اللواء ناصر منصور هادي وكيل الأمن السياسي لعدن ولحج وأبين، والعميد محمد الرصاص نائب قائد المنطقة الجنوبية، وعبدالله ناصر مدير مكتب وزارة الخارجية بعدن، وخلاصة ما قلته هو أن علم الدولة المرفوع على مكاتب وإدارات الدولة يختلف طوله وعرضه من موقع لآخر وأنه لا يصح أن يظل العلم مرفوعا نهارا وليلا وإنما يرفع في الصباح وينزل مع غروب الشمس (نفس ما قاله لاحقا الأخ علي) وأنه لا يصح أن يكون العلم ممزقا أو متسخا أو مشوها (نفس ما قاله الأخ علي) فسبحان الله.

وكان أول قرار تصدره القيادة العامة للجبهة القومية في يوم الاستقلال 30 نوفمبر 1967 (وقبل دقائق من إعلان الاستقلال رسميا) قد نص في مادته الرابعة على الآتي: «علم الجمهورية يتكون من الألوان الافقية التالية حسب ترتيبها من أعلى: الأحمر والأبيض والأسود وله من ناحية السارية مثلث لونه أزرق فاتح تتوسطه نجمة حمراء مخمسة» وصدر قرار فيما بعد بمواصفات العلم الرسمي للدولة قضى بأن يكون عرضه 4 أمتار وأن يكون طوله ثلثي عرضه وأن يكون أحد رؤوس النجمة متجها إلى أسفل.

ومن ذكرياتي حول العلم، في عام 1968 زارت قطع بحرية حربية سوفيتية ميناء عدن، وكنا نسكن بمنزل بمنطقة دار الرئاسة فوقفت وأشقائي بإحدى الشرفات نشاهدها وهي تمر بقربنا في طريقها للميناء، وكان والدي رحمه الله في طريقه للخروج إلى دار الرئاسة فشاهدها بالشرفة فحضر ووقف لدقيقة أو دقيقتين يشاهد القطع، وقد سألناه «ليش كلما اقتربت قطعة من بيتنا يقف ضباطها وجنودها بمواجهتنا ويلوحون بأيديهم لنا؟» فضحك والدي وقال «لأنهم عرفوا أن هذا بيت رئيس الجمهورية» فدهشنا وقلنا «وكيف عرفوا؟» فقال «من العلم فوق البيت» قلنا «ماله العلم؟» قال «محد منكم لاحظ إنه يختلف عن علم الدولة؟» فأجبنا بالنفي، فأخذنا إلى مدخل البيت وقال «تفحصوا العلم جيدا من هنا» (وكان ضخماً، وبالتأكيد كان بعرض 4 أمتار) فوجدنا فعلا أن به «إضافة» لم نلحظها من قبل لعدم تركيزنا عليه، وكانت «إضافة» واضحة بالفعل تجعل العلم متميزا عن علم الدولة (ولن أذكرها هنا وإلا فمنذ اليوم سيقوم كل من هب ودب بعمل تلك الإضافة إلى العلم) فسألناه عن سبب تلك «الإضافة» فقال «هذا هو علم رئيس الجمهورية ويرفع على منزله ومكتبه وسيارته عندما يكون بداخلها ولذلك عندما رآه الضباط السوفييت ورأوكم عرفوا أن هذا بيت رئيس الجمهورية».

والغريب أنني لم أر علما لرئيس الجمهورية اليمنية! لكنني شاهدت علم الرئيس في أكثر من بلد زرته.

والأغرب أن يرفع فوق مكاتب وإدارات الدولة في كل أنحاء اليمن أعلام صغيرة الحجم فلم أشاهد بينها علما بعرض 4 أمتار أو حتى 3 أمتار، وفي الأعياد غير الدينية يرفع على كل مبنى منها عشرات الأعلام من مقاس متر ونصف * متر! أو متر واحد * نصف متر! فكل واحد على كيفه! والمهم أنه «علم» والسلام! وبعضها ممزق وبعضها متسخ!

وتجدر الإشارة إلى أنه نتيجة لمعاناة الناس الاقتصادية وسوء أداء أجهزة الدولة الإدارية والأمنية والقضائية .. الخ لم يعد الناس يشعرون بالفرحة في الأعياد غير الدينية (أو ما تسمى بالوطنية)، التي تبدأ سنويا في 26 سبتمبر، فمثلا في العام قبل الماضي شاهدت في عدن في 26 سبتمبر 4 مساكن و5 سيارات (خصوصي) ترفع علم الجمهورية اليمنية، وفي العام الماضي صار العدد مسكنين وسيارتين، وفي الشهر الماضي لم أشاهد أي بيت أو سيارة ترفع علم الجمهورية.

فلم يعد للعلم أهمية لدى الناس (وليس له أهمية أصلا لدى الدولة نفسها!) وإنني أصدق الأخ الأستاذ علي محمد يحيى في قوله بأن علم الدولة أصبح «تغسل وتمسح به السيارات على قارعة الطريق» وإنني معه أيضا فيما اختتم به مقاله «ارحموا أعز رمز ذل» لكنني أرى أن الرحمة بهذا الرمز يجب أن تجيء من الدولة فتهتم بالعلم وبمواصفاته الرسمية وبمعاقبة من يهينه، لكن قبل ذلك عليها أن ترحم المواطن فتوفر له الوظيفة المناسبة، ولقمة العيش الكريمة، والتطبيب الحقيقي، والتعليم الحقيقي وبالمجان حتى يتخرج في الجامعة، وأن توفر له الأمن الفعال والقضاء النزيه والإدارة الحكومية النظيفة ...الخ، فبدون أن توفر الدولة كل ذلك سيظل المواطن يتجاهل علم الدولة أو يهينه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى