قصة قصيرة بعنوان (جنية العقبة)

> «الأيام» مختار مقطري:

> أوقف سعد تاكسيه (البريويت الأوبل) أمام بوابة (سيلرس كلب)، فترجل منه الفرنسيون الثلاثة الذين أقلهم من حي السفارات بخورمكسر، دفع له أحدهم خمسة دولارات وهو يبتسم، فشكره سعد بإنجليزية متقنة، فلن يبحث عن راكب آخر إلا من وجده وهو ذاهب إلى كريتر ليشتري (المطبقية) لزوجته (أم عمر).

كانت الساعة تتخطى ربعا بعد الثامنة وهو يدخل شارع (الهلال).. تعجبه الأضواء وهي تنسكب من واحهات المستودعات والمحلات التجارية التي لا تغلق أبوابها إلا بعد منتصف الليل.. فالتواهي مدينة لا تنام مبكرا والحركة لا تموت في هذه المدينة الصغيرة الضيقة التي تتلاشى حدودها خلف مينائها المفتوح على مدى واسع وأفق لا متناه ليس له حدود.

وفي شارع فرعي ضيق أقرب إلى الزقاق.. بدا له صائغ الذهب يعقوب اليهودي متوترا وهو يسحب الباب الحديدي ليغلق محله المختبئ تحت عمارة صفراء.. وأمامه كان جندي انجليزي يشير إليه ليتوقف.. لكنه لن يتوقف.. فهو يكره هؤلاء الجنود الإنجليز.. لكنه لم ينس يوم وقف وهو يوشك أن يطير فرحا ليشكر (المدامة) التي أنقذت حياة زوجته في (الكنين) من نزف لم ينقطع إلا على يديها.. في ولادة متعسرة لابنه البكر عمر.. ود حينها لو كافأها بعينيه.. ثم كره السياسة والمظاهرات وترديد الشعارات.

وعاد ليفكر بيعقوب اليهودي حين أحس بتوجس وحذر يلفان الشارع من حوله، لكن المصابيح الملونة كانت تزين واجهة (ريكس بار)، وحين كان يجتاز الصالة الغارقة بالضوء الأصفر المنهوك ودخان السجائر، ناداه ياسين الدبعي ولوح له بالقارورة، كان عبده فتيني والخضر عوض يشاركانه الطاولة، فدنا منهم وقال مداعبا:

- من يفرغ ويشحن البضائع في (الدكة) وأنتم هنا الثلاثة؟

واصل ياسين الدبعي ضحكه بعد أن تجشأ، ثم قال:

- اجلس معنا وأسعدنا بلسانك المسموم.

فاعتذر بانتشاء :

- ستغضب أم عمر لو تأخرت.

صب عبده فتيني تعليقه في جملة لحنية مألوفة وغناها بصوت جميل:

- يا ضعيف القلب يا قلبي.

لكن سعد تذكر يعقوب اليهودي والتوجس والحذر في شارع (الهلال) حين قال الخضر عوض وقد بدا عليه القلق:

- لا تلبِّ دعوة هذين المشردين.. الله معك.

غادر سعد (ريكس بار) وهو يحمل ثلاث قوارير (بيرا ابو بنت) لفها له النادل في غلاف جريدة يابانية، وقبل أن يشغل محرك (الأوبل) نزع غطاء إحداها بفكيه وأفرغ ثلثها في جوفه.

وفي أسفل (حجيف) توقف لرجل.. الرجل لم يكن عدنيا.. وفي الظلام فشل في تحديد جنسيته.. بذلته الفاخرة كانت رمادية.. وعيناه محجوبتان خلف نظارة سوداء.. وبسرعة بدت مضطربة رمى بحقيبة يده إلى داخل (الأوبل) وجلس في الكرسي الخلفي وهو يقول بإنجليزية أجنبية:

- الشارع الرئيسي في المعلا.. لكن بسرعة لو سمحت.

وكان سعد يحتاج ايضا للسرعة كي لا يتأخر عن محل بيع (المطبقية).. هو (الوحام) يا أم عمر.. مادامت (المطبقية) لذيذة ايضا في الشيخ عثمان.

نظر إلى وجه الرجل في المرآة وفتح الراديو.. جحب مؤشرها من لندن إلى عدن فصدح صوت أحمد قاسم بأغنية جميلة..فسأل الرجل بتودد:

- ما رأيك بالغناء العدني؟

ولم يرد الرجل.. كان (الأوبل) حينها يمر أمام (عمارة البس).. شعر كأن التوجس والحذر قد انتقلا من شارع (الهلال) بالتواهي إلى (الشارع الرئيسي) بالمعلا.. ثم نظر إلى ساعة يده (الصليب) وسأل الرجل وهو يغلق الراديو:

- أوشك الشارع الرئيسي على الانتهاء.. إلى أين؟

وكان صوت الرجل كأنه رنة جرس مشروخ وهو يقول:

- بنجلة الشيطان.

وكأن قلبه اهتز في مكانه هزة سريعة كطرفة عين ولكنها كانت مخيفة كهزة زلزال.. فخاف من شعوره بالخوف فجأة، وكف عن مراقبة وجه الرجل في المرآة.. ثم تنفس بارتياح بعد أن نزل الرجل بجوار (بنجلة الشيطان).. ومضى في طريقه الى العقبة.. لكن (الأوبل) كان منهكا وهو يتسلقها بصعوبة.. وها هو يزحف قبل ان تنحدر (مقبرة اليهود) الى اسفل الطريق.. ومن بعيد رأى شرشفا.. شرشفا واقفا في الظلام.. امرأة في شرشف ويدها تلوح له ليتوقف.. لكنه لن يتوقف.. ولن يستسلم لإغراء امرأة شاردة كما فعل غيره.. هل يشعر بالخوف الآن؟ هل لا يزال قلبه مطمئنا بين ضلوعه؟ لا يدري.. لكن من خلفه (بنجلة الشيطان) ومن أمامه (جنية العقبة).. فعليه أن يسرع قبل أن تؤثر عليه بخداعها ومكرها الخبيث. تعوذ من الشيطان أكثر من مرة وراح يتلو ما يحفظ من القرآن.. واستعاد (الأوبل) عافيته من جديد.. فانطلق كأنه رصاصة.. مرت أمامها في ثانية.. شعر خلالها بأنها رفست (الأوبل) بقدميها.. لكن الرصاصة اخترقت كريتر وكأنها كانت في سباق مع (الأوبل) الذي اخترق (باب عدن) ومرق كالسهم ملتهما شارع (الملكة أروى). وفي (جولة ريجل) أبطأ سعد من سرعة (الأوبل).. ثم تذكر أنه لم يشتر (المطبقية).. فكر في الرجوع إلى كريتر.. لكنه خاف من الفكرة.

اكتوبر 2005م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى