قم للمعلم..

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
كانت لنا وقفة الأسبوع الماضي مع معلم المعلمين فضيلة الشيخ محمد بن سالم البيحاني ومشروعه الرائد المعهد العلمي الإسلامي وقيادته السلسة لكوكبة من المدرسين متعددي المشارب والتوجهات والثقافات ومنهم: محسن العيني، علي أحمد السلامي، عمر سالم طرموم، سالم زين محمد، أحمد حسين المروني، محمد المجذوب من السودان، جعفر على عوض وأحمد محمد علي من السعودية وغيرهم كثيرون. كان الشيخ عابراً للخلافات والاجتهادات يركز بصيرته على الهدف النهائي فلا يتوه في منعرجات الطريق، وكان «واثق الخطوة يمشي ملكاً» لأنه لا يريد شيئاً لنفسه سوى ما يمنحه العمل الصالح من راحة ضمير وتقرب إلى الله، ولم يكن الشيخ يعرف {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} أن ابتلاءه وشيك وأقرب إليه من حبل الوريد بعد أن أبلى البلاء العظيم في محاولة إخماد الحرب الأهلية الأولى في عدن عام 1967 حيث كان الإنجليز بعقولهم النابهة يدركون مكانة الشيخ وقوة تأثيره في الناس فأخلوا له المذياع ربما لتبرئة ساحتهم مما يجري من سفك دماء أسست لشخيب الدم الذي لم يتوقف بعدها.

وقد ترك الشيخ معهده ومنبره ورحل إلى تعز مكسور القلب في ضيافة صديقه الحاج هائل سعيد أنعم حتى لقي وجه ربه دون أن يشتمّ أنفاس مدينة عدن التي كان يحبها ويتعشق ناسها، ولا أدري إذا كان الشيخ البيحاني لا يزال حياً آنذاك حين جرى تحويل ذلك الصرح العظيم (المعهد العلمي الإسلامي) إلى وزارة للداخلية، وهو الأمر الذي يكشف بجلاء الفرق بين عقليتين وبين العمل الصالح والطالح، وقد عاد المعهد بعد الوحدة المباركة إلى سيرته الأولى حرماً مفتوحاً على الشمس يتذكر أحبابه الذين رحلوا.. محسن أحمد العيني جاءنا من باريس قشيباً لامعاً متوهجاً مثل العُملة الجديدة الخارجة لتوها من قراطيسها، وكان بدعاً بين الاساتذة- بقمصانه الملونة وأحذيته ذات الكعب العالي نوعاً وصدره المفتوح من الأعلى ومشيته الرصينة الموقّعة وتلك الكبرياء الحازمة التي تتخلل ملامح وجهه وتنصب من نظراته فلا يفكر أحد في ممازحته فكيف في تدبير مقلب له كما هو الحال مع بعض الأساتذة الذين لا يجدون حرجاً في تقبل شيء من المزاح اللطيف، ولكنني وقعت معه شخصياً في مثل هذا الحرج دون أن أدري أو أقصد فقد كنت أتمازح مع زميلي وصديقي (الدكتور الآن في جامعة صنعاء) أحمد قائد الصايدي داخل الصف فسقطت على الأرض وتظاهرت بالإغماء ، وصادف ذلك دخول الأستاذ محسن الذي تفحصني كطبيب فأمر بأن يحضروا له ماء بارداً ليرشه على وجهي، ولم أكن أعلم أنه هو فقد كان هادئاً خفيض الصوت كأنه الحفيف، وأردت أن أضحك الطلاب فهببت في وجهه وأنا أقلد صوت القطط حين تهجم على أعدائها، وقد فوجئ بهذه الحركة المنقضة حتى كاد يقع. لم يتحدث إليّ وكظم غيظه وأشار فقط بإصبعه إلى الباب.. أي: اخرج منه.. بعد ذلك عفا عني فقد كان تربوياً قبل أن يكون معلماً.

وسّع محسن العيني حدود الدرس فعبر من الكتاب ومن الصف ومن اليمن ليجول بنا في آفاق لا علم لنا بها من قبل، فرأينا جامعة (السوربون) قبل أن نسمع بها، ولامسنا قيم الحضارة ونحن نتسربل بقيم البداوة. فتح قنوات سحرية مخفية في أخيلتنا فأصبحنا قادرين على الطيران، وكان الأستاذ أحمد حسين المروني قد قال لي أكثر من مرة: هذا رجل غير عادي سيكون له شأن كبير، ولم أدرك مغزى تلك الكلمات «إلا ضحى الغد». كان محسن ديناميكيا يذكرني بما قيل عن جمال الدين الأفغاني من أنه «يوزع الثورة كما يوزع السعوط» وهو البردقان العطري اللاسع الذي يتعاطى بالشم وكان رائجاً في اليمن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى