مع الأيــام..خمسة رمينا وخمسة كلينا و...

> علي سالم اليزيدي:

>
علي سالم اليزيدي
علي سالم اليزيدي
في حكاية بها من الظرف والفلسفة الدلالية الكثير : قال بحار قديم وهو يطلق زفرات الذكريات «هل تعرف ما هي قصة خمسة كلينا وخمسة رمينا وخمسة قدر الله علينا» أجبته بأنني أعرف ما درينا فقط، تبسم وقال «ذات نهار قام تاجر تمر بإرسال ما يقرب من خمسة عشر عبية تمر عماني من ميناء المكلا إلى البحر الصومالي المجاور ودفع الأجرة للناخوذا الصومالي صاحب السنبوق ومعها عنوان التاجر الآخر هناك، وعند المغيب غادر السنبوق الصومالي دكة المكلا وغاب في الغبة، وفي قناعة التاجر المكلاوي مثلما هي العادة أن التمر خلال نهارين وليلة سيكون في دكان التاجر الصومالي حسبما هو معمول به في التعامل النزيه والعرف المتبع ما بين الموانئ آنذاك، ومرت الأيام وقدمت سنابيق وذهبت سنابيق من الصومال محملة بالحنيد والجلود والبرابر وكنا نقول لها (برابر التوش) وتحسس التاجر وتخبر عن طول المدة ليهدأ باله ووصول بضاعته والأمانة والصدق والأخلاق في تعامل التجار ما بين الصومال ومسقط ودبي وعدن وبومبي.. إلخ، وبعد أشهر كتب إلى تاجر الصومال يطلب الإفادة ورد الجواب وشرح له عدد العبيات من التمر واسم الناخوذا والتاريخ، وذات صباح جحبت ساعية صومالية وجاءه الجواب: لم نستلم ما ذكرتم ولا علم لنا مع أننا نعرف هذا النوخذا حق المعرفة».

وهنا زاد تعلقي بالحكاية وطلبت الزيادة فقال هذا البحار العجوز وهو يدفع بكوفيته الزنجبارية على جبهته: ولأن الخمسة عشر قوصرة تمر لم تصل وإنما وصل البحارة والسنبوق، قدم التاجر وبرفقته شيخ الميناء وعسكري الدكة إلى الناخوذا وواجهوه بقصة التمر ..فما الذي جرى بينهما؟

تقول الحكاية ..سألوه عن التمر والأمانة فقال الناخوذا وهو يطأطئ رأسه ويفرك يديه: شوف (وريا) بعد ما سرنا من مكلا شفنا محامل التمر ثقيلة علينا وبايغوص السنبوق! ايش سوينا؟ تشاورنا وشلينا خمس عبايات ورمينا في البحر! وبعد ليلة هبت عاصفة وموج وريح، وتبلل الرز والدقيق حق الراشن، وجاع البحارة، وأيش سوينا، تشاورنا وكلينا خمس وسلمنا من الجوع. رد عليه عسكري الدكة: طيب خمسة رميتم وخمسة كليتم، باقي خمسة وينها؟ قال الناخوذا : هذه بدون تشاورنا الخمسة الباقي قدر الله علينا. وذهل التاجر من الإجابة ورد: بس وينها قدر الله علينا هذه ما دخلت في خمسة رمينا ولا في خمسة كلينا؟ واعتقد انه التمر العماني حالي وصار في باب قدر الله علينا وعوض علينا.

ووجدت نفسي أمام لغز له مغزى، فالقصة أولها خمسة كلينا ويقول آخرها قدر الله علينا، وما بين الخمسة الأولى والخمسة الأخيرة خمسة من الوسط قالوا عنها رمينا، إلا أن الحلقة المفقودة هنا ما بين المأكول وما بين المرمي أو المقذوف في البحر، إذ إن غياب خمسة محامل تمر لا هي مأكولة ولا مرمية ولم يجد الناخوذا الصومالي تفسيراً لها غير قدر الله علينا، وأدركت لحظتئذ أن البحار العجوز أراد مني استخراج الدلالة التي تفند ما يعجز المرء عن تفسيره أو يقدم عليه دون مبرر ويستخف بحياة الناس وأمورهم وشؤون حياتهم، فليس بالضرورة أن يكون تمر في سنبوق فهناك أشياء غالية نرمي بها وهي ليست رزاً ولا دقيقاً، إنها الأخلاق إذ لا يطيق البعض حملها والتحلي بها وجعلها دستور حياته ما بين الناس ومثل كل الناس، وهذا ما يفسر أزمة الأخلاق.

صحيح أن أولئك البحارة أكلوا التمر ولم يصل لصاحبه لكن سوء النية لم يتوفر وغلبت السذاجة وبعكس ما يجسده البعض من المغامرين ومناطحي السحاب ورجال الدهم، هؤلاء الذين فضلوا قلة الحياء ومحاربة أنفسهم قبل غيرهم يسقطون في الفساد الحقيقي الذي يخرب العقل والسلوك، فالسياسي يمكن إزاحته والسارق يتوب والنصاب ينكشف، لكن المصيبة من تنتكس أخلاقه، مع أنهم ما بين الرجال (لا هم حلوبة ولا جلوبة) وما أراد أن يقوله لي هذا العجوز أن الصومالي ويقصد الناخوذا .. رمى بمعنى عميق أن هناك من يعيشون في الظل ويقتاتون الظلام ومع هذا فنحن نتحمل وجودهم تحت ما يقال له «قدَّر الله علينا».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى