عدن .. أيتها المدرسة العظيمة !!

> د. عبده يحيى الدباني:

>
د. عبده يحيى الدباني
د. عبده يحيى الدباني
كثيراً ما نردد أن الحياة مدرسة ولا شك أنها كذلك بيد أن لها طلاباً ناجحين ولها طلاباً راسبين ولها كذلك طلابها الأوفياء وطلابها الجاحدون مثلها مثل أي مدرسة أو كلية أو جامعة بالمعنى المعروف الشائع لهذه الأسماء.

فلا غرابة إذن إذا أطلقنا على عدن المدينة صفة (المدرسة العظيمة) التي خرجت أجيالاً وأجيالاً في شتى مجالات الحياة، وهذه المدرسة التي اسمها (عدن) لم تهتم فقط بالجانب المهني لطلابها كأن يكونوا مدرسين أو نقابيين أو ساسة أو مناضلين فدائيين أو صحافيين أو رجال دين وعلماء أو أدباء وقانونيين ورياضيين أو أكاديميين أو تجاراً أو رجال شرطة أو مرور أو حتى مشاة مارة، لم تهتم فقط بهذه الجوانب المهنية، ولكنها تهتم أكثر ما تهتم بالجانب الإنساني والأخلاقي فيهم، إذ تغسلهم بمياه بحرها المالحة أجساداًَ ونفوساً وتجففهم تحت وهج شمسها الحارة بل تعقمهم تعقيماً بحرارتها ورطوبتها فيتبخر منهم الحقد والخبث والكبر والجشع والدناءة ويرسب في نفوسهم التواضع والاعتداد بالنفس والبراءة والقناعة ومروءتهم المتميزة الخاصة بهم والحساسية المفرطة والذوق الرفيع والمدنية والحضارة كما يرسب في قاع البحر اللؤلؤ والمرجان والأصداف والملح الزكي المعقم بعد أن أرسل إلى الجبال والبوادي غيومه المحملة بالمطر. أو ليست هذه مدرسة عظيمة ينصهر فيها الإنسان ليصير إنساناً بحق، إنها أكبر من أن تكون مدرسة، إنها مستشفى كبير تعالج به علل النفوس والأجسام والعقول، ولم يكن هذا الكلام تعصباً مني لعدن بوصفها مدرسة فأنا مازلت فيها طالباً أو قل تلميذاً، أنا صحيح أستاذ مساعد في (جامعة عدن) ولكنني في (عدن الجامعة أو المدرسة) لست سوى طالب ثانوي في أحسن الأحوال.

أجل إنها مدرسة عريقة لكل اليمنيين سواء الذين وفدوا إليها وعاشوا فيها أو الذين لم يعرفوها قط، لأنهم قد تتلمذوا على يد خريجي هذه المدرسة، فخريجوها منتشرون في كل مكان داخل الوطن وخارجه، فهناك من العرب والأجانب من يدين لعدن بالفضل الكبير إذ كانت محطة مهمة مثمرة من محطات حياتهم وأضرب مثلاً لذلك السلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان الذي درس في عدن، ورامبو الشاعر العالمي المعروف الذي عاش فيها زمناً.

ما أكثر المقررات الدراسية التي تقدمها هذه المدينة المدرسة لطلابها ومريديها في مختلف مناحي الحياة ومناهجها.. العلوم والأعمال والسلوك والدين والخلق والآداب والفنون والرياضة وغير ذلك، فمن الحقائق الاجتماعية والسيكولوجية أن عدن تستوعب بحنان كبير من يفد إليها على مدى التاريخ وتعمل شيئاًَ فشيئاً على تعدينه وتمدينه وتهذيبه وتشذيبه حتى تطبعه بطابعها الخاص فيصير جزءاً لا يتجزأ منها بل عضواً من أعضائها فإن أبى هذا الوافد على الترويض والانصهار، فسرعان ما ينصهر أبناؤه من بعده ويصيرون بحمد الله عدنيين أكثر من العدنيين أنفسهم وإن بقيت بعض الجوانب الإيجابية من الأصول فهذا خير وبركة ولكننا لا نقصد النزوح الجماعي الكاسح أو العشوائي فهذا يضر بتقاليد المدرسة المدينة وجاهزيتها بل نقصد ذلك النزوح المعقول المقبول الذي تستطيع المدينة أن تستوعبه وتهضمه وتؤقلمه وتغسله بمياه بحرها لا ذلك النزوح الكبير الذي يجعل من عدن نسخة مشوهة من تعز أو صنعاء أو من غيرهما.

إننا نريد أن تبقى عدن هي عدن مدرسة ومدينة وهوية شكلاً ومضموناً مثلما لا نريد لصنعاء أن تغدو نسخة مشوهة أو مكررة من عدن أو من تعز أو من المكلا أو من الحديدة وهكذا فالتنوع مطلوب ومرغوب وضروري في إطار الوطن الواحد فإذا غاب هذا التنوع بل التفرد الطبيعي هنا أو هناك فهذا يعني أن هناك خللاً ما أو مشكلة ما لا تحمد عواقبهما إذا جرى التمادي فيهما.

لا أخفيكم سراً إن لنا زملاء من صنعاء والحديدة وتعز والمكلا وغيرها يتضايقون كثيراً حينما يزورون عدن اليوم ويقولون إن عدن لم تعد هي عدن التي عرفوها بل وجدوها هجيناً عجيباً من مدن وقرى يمنية مختلفة ومتخلفة. لقد أحسوا بالمفارقة أكثر منا... فيا للحسرة، ويا لعدن!

لقد عمل الاستعمار ذات زمن على أن يجعل من عدن قطعة من الهند في كل شيء فعمل اليمنيون من كل مكان من أجل ترسيخ يمننة عدن وتعريبها فصارت يمنية عربية ذات هوية متميزة عن سائر المدن في الداخل والخارج لوناً ورائحة ومذاقاً.

لقد آن لنا أن نعترف جميعاً أننا طلاب لهذه المدرسة المسماة (عدن) فعلينا أن نكون طلبة أوفياء لها لا أن نكون جاحدين.. آن الأوان لنقوّم حالياً مخرجات هذه المدرسة وكيف أضحت أحوالها، لقد أصابها اليوم ما أصاب مدارسنا الابتدائية والثانوية من ازدحام الطلاب والتلاميذ واكتظاظ الصفوف وتدهور المبنى وبؤس معيشة المعلمين وغير ذلك من المقومات الضرورية لهذه المدرسة العريقة.

تحية لعدن المدرسة وتحية لمديرها الحالي وتلميذها النجيب الوفي الدكتور يحيى الشعيبي.. وللحديث بقية آتية إن شاء الله.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى