اليمن السعيد في الوجدان السعودي

> «الأيام» فاروق لقمان:

>
فخامة الرئيس علي عبدالله صالح
فخامة الرئيس علي عبدالله صالح
كنت في زيارة قصيرة لعدن، الثانية منذ الاستقلال 1967 لأنني كنت قد غادرتها مع مئات الألوف من المواطنين اليمنيين من عدن إلى أقاصي حضرموت والمهرة. وهناك على شاشة تلفزيون اليمن شاهدت حدثاً عجيباً ظل مرسوماً في ذاكرتي منذ خمس سنوات لدلالاته الكبيرة وعمق معانيه وإنسانية بطل الخبر الذي شاهدته.

رأيت صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود، النائب الثاني لخادم الحرمين آنذاك ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام - ولا يزال - وأحد أهم أركان النظام السعودي منذ أكثر من ستين عاماً أطال الله عمره، ولا يزال يعمل بنشاط ومثابرة ويقدم المال والروح والجسد في خدمة دينه ووطنه ومليكه وشعبه، لا تفارقه الابتسامة ولا تعكر صفوه أخطر المهام التي يقوم بها في كافة المجالات. وقد لا يعرف العديد من الناس حتى من السعوديين أن سموه يترأس ويدير عشرات اللجان شديدة الأهمية في حياة الشعب السعودي والعربي والمسلم بالإضافة إلى وظائفه الرسمية المعتادة.

وعلى الشاشة اليمنية رأيت سموه يترجل من سيارته بنشاط الشباب الدائم وحيويته في زيارة لجبل صبر البديع المشرف على مدينة تعز الرائعة التي تنقصها للأسف مشاريع حديثة لزيادة الناتج المحلي من مياه الشفه بعد أن جفت أو كادت تجف آبار الماء من تضاعف عدد السكان كنتيجة طبيعية للازدهار النسبي الذي تشهده اليمن عامة. وفي حفل بسيط في مظهره احتشد الناس حول الأمير سلطان وقد بدا مستمتعاً يما يرى ويلمس ويسمع وهو في غاية السعادة لأنه عرف اليمن وعرفه اليمنيون منذ أكثر من أربعين عاماً سيما بعد المصالحة التاريخية الكبيرة التي تمت عام 1970 .

وبعد تناول القهوة وأطراف الحديث كان قد عرف أهم احتياجات جبل صبر الشامخ على المدينة وفهم المطلوب والمأمول من زيارته الميمونة، وكل زيارات الأمير سلطان في الداخل والخارج ميمونة كما علمت وسجلت ونشرت منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

فأمر مرافقه بتسليمه حفنة من الأوراق ظل يوقعها واحدة تلو الأخرى حتى أتم عشراً منها عرفت فيما بعد أن كلاً منها كان شيكاً سياحياً بمبلغ مليون دولار. ثم سلمها لممثل شركة يمنية مشهورة ومقتدرة على الإنفاذ لبناء طريق معبد حديث للسيارات من حافة الجبل إلى قمته لأن ذلك كان مطلباً شعبياً عزيزاً ليس فقط بالنسبة لأهالي تعز العز كما نسميها بل لكافة المواطنين القادمين من خارج اللواء من عدن جنوباً إلى عمران شمالاً.

وسلم الأمير سلطان عشرة ملايين دولار للشركة كهدية غير مشروطة سوى بوجوب التنفيذ على أفضل درجة. وأضاف أن المبلغ هدية من أخيه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله وأضاف بيتاً من الشعر لا زلت أتذكره وهو:

خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز
خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز
يجود علينا الأكرمون بمالهم ونحن بمال الأكرمين نجود
ولما كنت مقيماً في المملكة العربية السعودية ولا أزال منذ أكثر من ثلث قرن أعرف أن تلك المناسبة لم تكن نادرة الحدوث في حياة الأمير سلطان، فهو من أكرم الناس في العالم وأكثرهم شهامة وأسرعهم إلى تلبية قضاء احتياجات الآخرين. والحديث عن ذلك يتطلب مقالاً منفرداً أو بالأصح مقالات متعددة.

ويظهر ذلك بالنسبة للجمهورية اليمنية خلال رئاسته لعدد كبير من اجتماعات مجلس التنسيق السعودي - اليمني الذي يحرص سموه على حضوره شخصياً للاتفاق والموافقة على مجموعات من مشاريع التنمية التي تمولها المملكة في اليمن منها مستشفيات راقية ومعاهد تعليمية وطرقات حديثة ومعونات تمويلية كانت تشمل سد العجز المالي في الميزانية اليمنية. وقد قال لي وزير خارجية يمني سابق كان يمثل حكومته في الاجتماعات أن سمو الأمير سلطان كان ليس فقط ألطف المفاوضين الذين عهدهم عبر تجربته الطويلة بل إنه كان يوافق على كافة طلبات الجانب اليمني فوراً. وقال لي بالحرف الواحد: «والله لو كنا نعرف ذلك قبيل الاجتماع لضاعفنا طلباتنا».

ولست هنا بصدد الإشارة بالتفصيل إلى المعونات السعودية للجمهورية اليمنية لأن هناك ملفات وسجلات وافية ومتوافرة من مستشفى عدن السعودي إلى طريق حرض الجوف. ولا شك لدي في أن زيارته الأخيرة لليمن التي ستعقد في حضرموت ستنجم عنها المزيد من المنح والمعونات تمشياً مع تجربة الجانب اليمني مع الجانب السعودي الذي يرأسه الأمير سلطان.

والحديث عن حضرموت ذو شجون للعلاقات التاريخية بين هذا الجزء العزيز من اليمن والمملكة العربية السعودية منذ آلاف السنين لأن الحضارم أصلاً مهاجرون جابوا بقاع الأرض بحثاً عن الرزق لشح المياه وقحولة التربة وانعدام الموارد المعدنية حتى ظهور النفط في العقد الماضي.

فهم الذين استوطنوا المملكة العربية السعودية منذ القدم - بل منذ عهد كندة الزاهر الذي امتد إلى أقصى أطراف عمان - وهم الذين أسهموا في نشر التجارة في كل أرجاء المملكة من قبل تأسيسها كنظام سعودي منذ ثلاثمائة عام ثم انخرطوا في النسيج السعودي الاجتماعي وبنوا وشيدوا كما كانوا يعملون مع سواهم من أهل اليمن في البناء كعمال وفي مقاولات المشاريع الإنمائية والمصرفية. وجاءت فترة كان اليمنيون يشكلون أكبر شريحة عمالية على الإطلاق حوالي مليوني نسمة، تعتمد على تحويلاتهم الشهرية مليونا أسرة ظلت في أرض الوطن الحبيب.

وكما سافر الحضارم إلى أندونيسيا خلال الاستعمار الهولندي والهند خلال الاستعمار البريطاني - سيما حيدر عباد وساحل ملبار والهند الصينية - في عهد الإمبريالية الفرنسية، كان لهم باع طويل في النشاط الاقتصادي السعودي من قبل تأسيس الدولة السعودية المباركة - كما أسلفت - حتى اليوم.

ولا تزال المملكة كعهدها دائماً تمد يد العون ليس فقط للحكومة اليمنية بل تحتضن أكثر من مليون وخمسمائة ألف مواطن يمني مقيم في الأراضي المقدسة. وطالما أنهم يلتزمون بقوانين المملكة المبنية على الشريعة السمحاء فإنهم في مأمن لا تشوب حياتهم شائبة.

كذلك فإن اليمني المقيم أكان حضرمياً، عدنياً، ذمارياً أم صنعانياً، يولي المملكة حباً عميقاً واشتهر في أوساط التجار والملاك السعوديين بأنه من أفضل العاملين وأكثرهم أمانة ونزاهة. وقد قال لي أكثر من سعودي خلال عشرات اللقاءات أنه يفضل توظيف اليمني على سواه وأنه لا يتردد في ترك كافة شئون عمله بما فيها النقد والذهب له دون خوف أو شك في أمانته. ولا تزال الأمور تسير على هذا المنوال بإذن الله.

هجرة اليمنيين من الساحل الجنوبي للجزيرة العربية إلى شمالها أي الحجاز تعود إلى الدولة الحميرية الثانية التي اشتد عودها بعد ضغطها على دولة سبأ حتى اندثرت، ويعرف أن السبئيين كانوا يستعينون بالحميريين في حماية أطراف دولتهم إلى أن قويت أحلافهم وتغلبوا في السيادة على سبأ حتى استولوا على ما كان في الماضي يسمى حضرموت الكبرى والصغرى. ومثلما حدث للسبئيين، لجأ الحميريون إلى قبائل كندة الذين يعود نسبهم إلى قحطان بن هود عليه السلام وكانوا يقطنون الجنوب الغربي لشبه الجزيرة العربية.

ويذكر النسابون والرواة الحضارمة والعرب أن الحميريين استعانوا بقبائل كندة لحماية الخطوط التجارية الشمالية للدولة الحميرية. وأخذ الحميريون يقوون روابط الصلة بينهم وبين قبائل كندة، فشرعوا في تكوين تحالفات قبلية جديدة عن طريق المصاهرة، بهدف تقوية الروابط والصلات الدموية بين الحميريين وقبائل كندة.

واستطاع التحالف القبلي بين حمير وكندة أن يمد سيطرته على مساحات واسعة من الجزيرة العربية، التي امتدت من حدود الحجاز الشرقية إلى الشام والعراق في الشمال، وإلى البحرين وعمان في الشرق. ودامت هذه السيطرة فترة لا تقل عن 150 عاماً بعد منتصف القرن الخامس الميلادي.

واجه تحالف كندة وحمير الذي كان يشبه دولة يسودها أبناء كندة، تحرشات وضغوطاً عربية من الدول المحلية التي كانت موالية للبلاط البيزنطي آنذاك مثل «الغساسنة»، إضافة إلى الدول الموالية للبلاط الساساني مثل «اللخميين». وبعد تحرشات استمرت طول سيطرة تحالف كندة على هذه الرقعة الشاسعة من الجزيرة العربية، انفصم التحالف ممهداً السبيل لتأسيس سيادة اللخميين، الذين داهمتهم تناحرات قبلية أدت إلى فوضى عارمة في معظم المناطق الشمالية، الشرقية والوسطى من شبه الجزيرة العربية. واستمرت هذه الفوضى حتى ظهور الإسلام كما تقول المصادر الأجنبية والعربية التي استعنت بها وأخص بالذكر الأستاذ المؤرخ الأخ العزيز غالب بن عوض القعيطي آخر السلاطين قبل حلول الاستقلال.

لم يستطع المؤرخون القدامى منهم أو المعاصرون تحديد تاريخ انسحاب تحالف كندة إلى موطنهم الأصلي في جنوب غربي الجزيرة العربية. وقال بعض المؤرخين إن انسحاب كندة يحدد باليوم الذي هزموا فيه أمام القيسيين في معركة «شعب جبلة»، التي أسر وقتل فيها أميرهم معاوية بن الجون الذي كان يحكم آنذاك البحرين واليمامة.

وذكر أبوالفرج الأصفهاني صاحب كتاب «الأغاني» أن معركة «شعب جبلة» حدثت قبل مولد الرسول عليه الصلاة والسلام بنحو تسعة عشر عاماً، أي قبل ظهـور الإسـلام بنحـو تسعة وخمسين عاماً.

الرياض
الرياض
ويذكر أبو الحسن الهمداني (توفي عام 971 ميلادية) أن عدد الكنديين الذين عادوا إلى موطنهم الأصلي لا يقل عن 30 ألف نسمة. ويقول النسابون العرب والحميريون إن هذه المعركة لم تكن السبب الوحيد لعودة الكنديين، تلك كانت حلقة أخيرة حسمت حرب الغيرة المتأججة بين ملوك كندة، التي استغلها وأشعل نارها الأمراء الغساسنة واللخميون ومن خلفهم الإمبراطوريتان البيزنطية والساسانية.

وكانت عودة كندة إلى جنوب اليمن تاريخية، وأطلق على العائدين اسم «قبيلة بني معاوية»، التي أهدت للعرب نحو سبعين ملكاً. وكان لقب «الملك» يطلق - قياساً بعصرنا الحالي - على شيوخ القبائل أو أمرائهم.

ووفقاً للرواة والنسابين العرب، فإن عدداً كبيراً من العائلات الحضرمية الشهيرة والمعاصرة حالياً، تنتسب إلى الكنديين، مثل: بن محفوظ، باجمال، بازرعة، باكثير، بارباع وبن لادن.

ويذكر أن الكنديين العائدين من شمال ووسط الجزيرة العربية قوبلوا في حضرموت مقابلة المهاجرين. وعلى الرغم من ذلك كان الكنديون يعتبرون أنفسهم أهل سيادة وملوكاً، مما كان يضعهم على حواف براكين، تنفجر من حين إلى آخر بينهم وبين القبائل الأخرى في المنطقة. وكانت الظروف الجغرافية والمناخية لأرض حضرموت سبباً فرضياً لعيش هذه القبائل المتناحرة جنباً إلى جنب، إلى أن انصهرت قوالبهم بفعل التجاور والمصاهرة والمشاركات الاجتماعية. وقد لعبت الأسواق التجارية الشهيرة في الجزيرة العربية قبل وبعد الإسلام، دوراً رئيسياً في تعريف أهل جنوبي غرب الجزيرة العربية بشمال غربي الجزيرة (الحجاز)، كما كان نفس الدور بتعريف أهل الحجاز بالمنطقة اليمنية. وكانت سوق عكاظ عامل جذب لليمنيين، كما كانت سوق رابية التي كانت تقام في وادي العين عنصر جذب للحجازيين.

خور المكلا
خور المكلا
وكانت سوق عكاظ عنصراً فعالاً في تعريف اليمنيين بالإسلام بعد نزوله، وكان بعض ساداتهم يلتقون رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن جاء عام الوفود (تسعة هجرية).

وسبق عام الوفود أن تآلف كثير من أهل جنوب اليمن مع الإسلام دون أن يشهروا إسلامهم لأمور عديدة أهمها: صعوبة التخلي عن ديانة آبائهم بعاداتها وتقاليدها، ثم محاباة أهل قريش الذين اشتهر عداؤهم للإسلام في صدره. وكانت الفلول التجارية لليمنيين ترتبط مع قريش بأواصر تجارية ازدادت متانة بالعلاقات الاجتماعية والمناسبات التي كان يدعى إليها الطرفان سواء في اليمن أو في الحجاز.

وجاء عام الوفود الذي نشطت فيه الهجرة إلى الحجاز وتحديداً إلى يثرب، المدينة المنورة للقاء الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان قد نشر رسالته بين القبائل المهاجرة إلى مكة قبل هجرته إلى المدينة.

واليوم يقوم سمو الأمير سلطان ولي عهد المملكة العربية السعودية بزيارة تاريخية لليمن السعيد للتوقيع على تمديد اتفاقية التعاون والتنسيق التي مدت جسوراً جديدة بين الأشقاء وجعلت من العلاقات اليمنية السعودية مثلاً أعلى لحسن الجوار والتفاهم والتعاون والتسامح بكل معانيه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى