في 13 يونيو 2025 خاضت إسرائيل حربًا بلا إعلان، وخرجت منها بنصر نظيف بلا صورة ولا ضجيج، لم تكن الضربة التي استهدفت إيران مجرد رد على تحرّشات الحوثي في البحر الأحمر، ولا على المناوشات الكلامية في الضاحية الجنوبية، كانت ضربةً بحجم خرافة، خرافة اسمها “الردع الإيراني”، فمنذ أن قرّرت طهران أن تبني إمبراطوريتها من اليمن إلى لبنان، مرورًا بسوريا والعراق، وهي توهم نفسها بأنها باتت قوة إقليمية عظمى، وفي المقابل كان خصمها يقرأ، يصمت، يخطط، ويخدع.
أدارت إسرائيل واحدة من أذكى عمليات التضليل العسكري في التاريخ الحديث، محاكمة نتنياهو، حفلة زفاف ابنه، صراع داخل الكنيست، تقارير إعلامية عن خلاف مع ترامب، تغريدات مُفخخة من إيلون ماسك، ومناوشات افتراضية تُضخّم الفوضى داخل تل أبيب، كل ذلك كان جزءًا من سيناريو مكتوب بدقة ليقول لطهران: ارتاحي، نحن مشغولون بأنفسنا، وفي طهران، حيث العقل الثوري يقرأ السياسة كما تُقرأ خطب الجمعة، صدّقوا المسرحية. انشغلوا بتحليل صور الزفاف أكثر من مراقبة المجال الجوي، وتفرّغ الحرس الثوري لإحياء مراسم الثأر لسليماني وهو يعلم أن الطائرات تقترب.
العملية لم تكن ضربة تكتيكية، بل تصفية إستراتيجية هادئة، قُصفت منشآت نووية ومخابراتية، وقُتل قياديون من الصف الأول، وتفككت أجزاء من البنية التحتية لبرنامج التخصيب، وانتهى الأمر قبل أن تنشر إيران بيانًا، لم تعترض طائرة، لم تُفعّل بطارية، لم يظهر صوت واحد يصرخ “الموت لإسرائيل”، كل ما قيل لاحقًا خرج من أقبية التشريفات.. بيانات باهتة، عبارات خشبية، وتهديدات بالتوقيت المناسب الذي لا يأتي. إيران، التي كانت تصنع سرديتها الكبرى على قاعدة “الهيبة”، وجدت نفسها في 13 يونيو – حزيران تواجه أبشع صور الإهانة: السكون التام بعد الصفعة.
في الحروب تُقاس الهزائم بحجم المفاجأة، لا بعدد القتلى، وإيران هُزمت لأنها لم تكن تعرف أن هناك ضربة، لم تُفاجأ فقط، بل عاشت الساعات الأولى من الغارات في إنكار شبه تام، ثم انتقلت إلى مرحلة الصمت، ثم إلى مرحلة صياغة ردّ لم يأتِ، ولن يأتي، ولأنها اعتادت أن تختبئ خلف أذرعها، حاولت أن تدفع بجماعة هنا وميليشيا هناك، لكن الرسالة كانت واضحة: هذه المرة الضربة وصلت إلى الرأس، لا إلى الأصابع. في هذا اليوم سقط وهم “الرد المؤجل” الذي بات، منذ اغتيال سليماني، نكتة إقليمية.
ما جرى ليس حادثة معزولة عن سياق، بل لحظة فاصلة في إعادة توزيع القوة في الشرق الأوسط، هي الصفحة الجديدة في كتاب الصراع، حيث لم تعد إسرائيل تختبئ وراء الأميركيين، بل تضرب بنفسها وتحت مظلتهم، فيما إيران تلوذ بالمراوغة وتخشى المواجهة المباشرة، الضربة جاءت قبل الجولة السادسة من محادثات مسقط، وكأنها رسالة مفادها: من سيجلس على طاولة التفاوض ليس طهران القوية، بل طهران الجريحة المهزومة، منطق التفاوض تغيّر، لم تعد إسرائيل تنتظر الهجمات لتردّ، بل تصنع شروطها الميدانية مسبقًا، وتفرض على خصمها الانحناء دون طلقة واحدة.
وهذا ما لم تدركه طهران، أدمنت الخطابة، وصدّقت أن الحشود التي تهتف في قمّ والنجف وصنعاء والضاحية الجنوبية في بيروت قادرة على حماية منشآتها، اعتقدت أن رفع صور سليماني في الضاحية يعوّض غياب الجاهزية العسكرية، وأقنعت جمهورها بأن الولايات المتحدة لم تعد تجرؤ، وأن إسرائيل تعيش في دوامة داخلية لا تنتهي، لكن ما حصل هو العكس تمامًا: الخصم كان يخطط في الظل، ويؤسس لحظة السحق بهدوء، لا يصرخ ولا يستعرض، بل يضرب ثم ينسحب ويترك العدو يصرخ وحده.
جاءت الضربة بعد 20 شهرا من عملية حماس في 7 أكتوبر، العملية التي أرادتها إيران انقلابًا في المعادلة، فإذا بها تصبح بداية النهاية لمشروع طويل من التضليل. كانت طهران تتحدث عن “توازن ردع جديد”، فإذا بها تفقد توازنها، وتظهر على حقيقتها.. دولة تملك فائض خطاب، لكنها عاجزة عن إدارة أي ردّ مباشر، أما من ظلوا يهللون لخطاب “المقاومة”، فباتوا اليوم يتهامسون في بيروت وصنعاء وغزة: إذا كانت هذه هي إيران، فكيف نحتمي بها؟
الارتباك لم يكن في النظام الإيراني فقط، بل في جمهوره أيضًا، فالجمهور الذي تربّى على فكرة أن طهران تردّ مهما طال الزمن، لم يجد سوى الصمت، لا صورة لصاروخ، لا مشهد لعملية انتقام، لا إعلان حتى عن خسائر دقيقة. قادة الحرس الثوري غابوا، ووكالات الأنباء اكتفت بنقل أخبار العزاء، وعندما حاول أحد النواب التصريح بأن “الرد سيكون موجعًا”، سُحب تصريحه من وكالة “إرنا” خلال ساعة، لا أحد يجرؤ على مواجهة الحقيقة، لأنها مرّة أكثر من كل ما قيل منذ 1979.
أما إسرائيل فلم تقل شيئًا، لا مؤتمر صحفي، لا بيان انتصار، لا احتفال، اكتفت بأن فعلت ما أرادت، ثم خرجت، وأبقت خصمها في حالة من الذهول، وهو ما يُحسب لها، لأنها أعادت تعريف المعادلة.. ليست القوّة في حجم الدمار، بل في نوع الرسالة، الرسالة هنا كانت واضحة.. اللعبة تغيّرت، ومن لا يفهم ذلك فسيُضرب مرة أخرى، وربما من مكان آخر، في وقت آخر، وبشكل أكثر إذلالًا.
في 13 يونيو لم تُضرب إيران فحسب، بل جُرّدت من ادعاءاتها، سقطت مقولة “طهران لا تُخترق”، وسقط معها مشروع إمبراطورية ظنّ أنها ستحكم المنطقة عبر خطاب المظلومية وسلاح الوكلاء، في هذا اليوم ظهر كل شيء على حقيقته، إيران عاجزة، مشروعها مثقوب، وردّها وهم، 13 يونيو 2025 ليس مجرد تاريخ عابر، بل خط فاصل بين شرق أوسط قديم، عاش على سرديات مرتجلة، وشرق أوسط جديد تُحدّد ملامحه عبر خريطة النار، لا خريطة الخطب، وهنا، تنتهي الخرافة.
عن "العرب اللندنية"