رؤيتان ومنهجان في التراث

> «الأيام» د. يحيى قاسم سهل:

>
د. يحيى قاسم سهل
د. يحيى قاسم سهل
يكاد يجمع الباحثون في التراث على أن مصطلح تراث يعني كل حدث أو أثر أو إنتاج إنساني دخل الماضي وأصبح جزءاً منه، أما بالنسبة للموقف من التراث أو التعامل معه فهناك موقفان متغايران:

الموقف الأول يعد التراث مجرد تراسم كمي لأشكال من الوعي مصدرها الذات وهذا الموقف من التراث بغيته نفي الحيوية والحركة والصيرورة عن التراث وتجريده من واقعه الاجتماعي والتاريخي.

وينظر الموقف الثاني للتراث من خلال الجدلية بين الوعي والوجود الاجتماعي.

ويتضح مما سلف أن الموقف الأول يعد التراث شيئاً جامداً دون حركة وبالتالي دون صيرورة أي أنه ماض وحسب ولا علاقة له بالحاضر، وهنا يغدو الحاضر مقطوع الصلة بالماضي وعليه أن يرتجل نفسه ارتجالاً ولا مستقبل له، لأنه دون أرضية يقف عليها.

أما الموقف الآخر فيرى أن الأمر على النقيض تماماً، فالتراث ليس ماضياً فقط وإنما هو كائن حي متحرك في صيرورة هي صيرورة الحياة الواقعية التي ينبثق منها ويحيا فيها ومعها وهي بدورها تحيا فيه ومعه.

وهذه النظرة الجدلية كثيراً ما تغيب عن السلفيين أصحاب نظرية أو فكرة (العودة إلى الأصل) وما يتفرع عنها من أطروحات تتكون بتكون الظروف.

وفي ضوء هذا الفارق الأساسي بين الموقفين، نستطيع الاقتراب من جوهر الموضوع وهو هل التراث شيء ساكن أم متحرك؟ وهل منبعه مستقل استقلالاً تاماً عن الواقع الاجتماعي والتأريخي أم ينبع من الوعي بوصفه كذلك؟

إن الوعي ليس شيئاً مستقلاً عن الكائن الواعي، وإنما هو نتاج كينونته أو نتاج الصيرورة الحية التأريخية لهذه الكينونة.

إن الذين يتصورون أن التراث مجموعة أفكار وتأملات ذاتية منقطعة عن واقعها الاجتماعي والتأريخي.. الخ. فإنهم يتعاملون مع التراث كتعاملهم مع الأدوات الموجودة في المتحف ولا يرون فيها سوى أشياء هامدة كالمومياء لا حركة فيها ولا حياة.. والآن أي الموقفين نختار؟

هل نختار الموقف الذي يقطع صلة حاضرنا بماضينا ويريد توجيه ثقافتنا إلى خارج تاريخنا وخارج معركتنا معركة التقدم والحداثة؟ أم نختار الموقف الآخر الذي يرى حاضرنا شكلاً حركياً تطورياً للماضي ويسعى إلى إقامة الاساس الوطني التأريخي لحركة تطوير الثقافة الوطنية بجذورها العربية والإسلامية باتجاه يضعها في مركز مشكلاتنا الاساسية المعاصرة، وهي المشكلات التي تواجه شعبنا في صراعه العارم على طريق الديمقراطية والتحديث...إلخ.

يبدو لي أنه ليس في الأمر خيار وذلك لأن الموقف الأول عدمي تجاه التراث وهو موقف يختاره ويبشر به أعداء الحياة والتقدم، ويبقى الموقف الآخر بوصفه الموقف الذي يتوافق كلياً مع قضية نضالنا الوطني الديمقراطي بقدر ما يتوافق أساسه الفكري في فهمه للتراث مع النظرة العلمية لكل تراث فكري حضاري، وهذا الموقف ينسجم مع متلطبات الجماهير ويلبي طموحاتها وتطلعاتها.

لكن يجب ألا يكون الاخذ بهذا الموقف من التراث استدراجاً إلى موقف عدمي آخر مقابل للموقف العدمي السابق، بمعنى أن نرفض كل ما هو خارج عن ثقافتنا وتراثنا وأن نغلق الأبواب والنوافذ دون ما هو آت من الخارج مهما كانت الحجج والمبررات، ففي التيارات الواردة من الخارج ما هو قمين بالتمثل والاقتداء.. ولا ما يستدرجنا من جهة ثانية إلى الموقف الرجعي الذي يدعو إلى إعادة الماضي إلى الحاضر تحت يافطة (المحافظة على التراث).

لكن ما المقصود بربط الحاضر بالماضي؟ هل يعني العودة بالحاضر وقضاياه وإشكالياته وأسئلته إلى القضايا والمشكلات ذاتها التي ارتبط بها التراث؟

هل نستحضر أسئلتهم وأجوبتهم ونسقطها في ظروف تختلف عن ظروف راهننا؟.. فإن كان الأمر كذلك فهذا يعني اغترابنا عن العصر.

وللإجابة على ما تقدم، تبرز قضية المنهج الذي نختاره في الارتباط بالتراث ويتجلى ذلك في الاتجاهين الآتيين:

أولهما يقدس الماضي لذاته بوصفه ماضياً فحسب، ولذلك يأخذه على إطلاقه وبكل ما فيه محتويات وأشكال وقيم دون تمييز.

والثاني اتجاه نقدي ثوري يعارض نزعه التقديس للماضي، بل ينظر إليه في ضوء القوانين العامة لحركة التطور التأريخي دون تجاهل، كون هذه القوانين تتجلى بأشكال وظواهر خاصة وفقاً لخصائص مجتمع معين في عصر معين وفي ظروف اجتماعية معينة...إلخ.

وبهذا المقياس - إن جاز التعبير- تجرى عملية النقد للتراث، أي عملية الاستكشاف والتقويم التي تعتمد على النظر في المحتويات والظواهر والأشكال التراثية على أساس رؤية كل منها في مكانه من حركة التطور ضمن الخصائص القومية التأريخية ذاتها، وهذا الاتجاه هو الذي يجب الأخذ به في سبيل ما يسمى بعملية إحياء التراث.

إذن الإحياء ليس إحياء مطلقاً، وبعبارة أكثر تحديداً ليس إحياء لكل شيء حتى ما هو ميت، أو ما قد أصبح ميتاً، بمعنى أن الإحياء ليس عملية اصطناع وافتعالات اعتباطية وليس هو هدفاً بذاته وإنما هو في آخر المطاف إعادة اعتبار لما هو حي بالفعل من عناصر التراث.

وفي الختام، لا يسعني إلا القول مع الزميل حميد عبدالقادر محرر الصفحة الثقافية في صحيفة «الخبر» اليومية الجزائرية:

«إن القراءة التي لا تعترف بالأسلاف لتأسيس متن فكري جديد عبارة عن قراءة تحمل بذور فشلها».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى