رحيل المؤرخ الكبير بيار فيدال ناكيه .. كم نحتاج إلى أمثاله لوقف هذا الجنون؟

> «الأيام» عن «النهار» اللبنانية:

> «ترتكب إسرائيل المجازر باستمرار» ..لأن القول الذي نستشهد به أعلاه صادر عن المؤرخ والمناضل الكبير بيار فيدال ناكيه، فإن أبعاده عظيمة. أن يدين هذا الرجل أفعال إسرائيل، فينبغي أن يثير ذلك احترامنا الشديد.

كيف لا وهو اليهودي الذي رفض والداه ترك فرنسا إبّان الحرب العالمية الثانية، فاعتقلهما الغستابو في مرسيليا في مايو 1944 وتم ترحيلهما إلى معتقل أوشفيتز. سُمّمت والدته بالغاز فور وصولها، على ما يبدو، وعرف والده المصير نفسه بعد ثلاثة أشهر.

ما كان بيار فيدال ناكيه لـ«يوقّت» وفاته بشكل أفضل، تزامناً مع المجازر التي يعيشها لبنان الآن، في صيف 2006 المأسوي هذا. فهو توفي في 29 يوليو في باريس عن عمر يناهز ستة وسبعين عاماً، إثر نزيف في الدماغ. لو أنه لا يزال على قيد الحياة، لكان نزل حتماً إلى الشارع مع اللبنانيين ليبكي موتاهم. فهذا الفرنسي الذي دفع غالياً ثمن هويته اليهودية اصطفّ مع غيره من المفكرين اليهود ضد السياسة الإسرائيلية. وهو قبل ايام من مماته، كان لا يزال يناضل من أجل حق وجود الدولة الفلسطينية، كما أعلن معارضته للحرب التي تشنها حالياً إسرائيل ضد لبنان.

حاز بيار فيدال ناكيه (دكتوراه) في الآداب وفي التاريخ، وهو أستاذ ومدير للابحاث في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية. اهتم بتاريخ الإغريق والتاريخ اليهودي والتاريخ المعاصر، مكرساً معظم أبحاثه للوقت والذاكرة. هو حارس نبيل للذاكرة، ذاكرته الفردية (في ما يخص مأساته العائلية والتعذيب الذي عرفه والداه) والذاكرة الجماعية على السواء. لذا، ناضل طوال حياته من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان وعمل ضد التعذيب في الجزائر (لجنة أودان) وضد دعاة اعادة النظر في وجود غرف الغاز النازية. وقّع مع ميشال فوكو وجان ماري دومناك في 8 فبراير 1971 بيان مجموعة المعلومات حول السجون. وهو عضو في اللجنة الراعية لـ«التنسيق الفرنسي من أجل عقد ثقافة السلام ونبذ العنف».

في الواقع، تدل عناوين مؤلفات فيدال ناكيه الكثيرة على القضايا الأكثر شهرة التي التزمها: «الأسطورة والتراجيديا عند الإغريق» (بالاشتراك مع مجموعة من الكتّاب (عامي 1972 و1986)، «قضية أودان» (1989)، «قتلة الذاكرة» (1995)، «التعذيب في الجمهورية: مقال حول التاريخ والسياسة المعاصرة 1945 - 1962» (1998)، «اليهود والذاكرة والحاضر» (1995)، «الإغريق والمؤرخون والديموقراطية» (2000)، «الديموقراطية الإغريقية من منظور خارجي» (2001)، «جرائم الجيش الفرنسي في الجزائر 1954 - 1962» (2001)، «المرآة المكسورة: التراجيديا الأثينية والسياسة» (2002)، «العمل والعبودية عند الإغريق» (2002)، «الحل النهائي في التاريخ» (2002). «سبب دولة: نصوص نشرتها لجنة أودان» (2002).

لا مفر من أن يتساءل كل من ينحني على سيرة فيدال ناكيه الغنية، كيف استطاع يتيم في الخامسة عشرة من عمره، انتظر عودة والديه عند التحرير بلا جدوى، أن يصل إلى ما وصل إليه، وأن يصبح ما أصبح عليه. استطاع فيدال ناكيه باكراً جداً التسامي بصدمته إلى نضال متواصل ضد العنف والظلم، منغمساً لتحقيق هذا الهدف في صفوة الأدب، فتشبع بالتراجيديا: سوفوكل وكورناي وراسين وهو كان لا يزال يحفظ أبياتهم إلى حين وفاته. وقرأ جان جاك روسو وفيكتور هوغو و«هزيمة مارك بلوك الغريبة»، أحد الكتب الرئيسية التي أوحت إليه موهبة التأريخ.

درس فيدال ناكيه التاريخ وفي ذهنه أن التاريخ يجمع أيضاً بين الأدب والفلسفة. اكتشف السوريالية وخصوصاً مع بروتون وشار وأرنو. في الثامنة عشرة من عمره، أنشأ مع اصدقائه مجلة «طيش». تعمّق في أفلاطون وقرر العمل على المفهوم الأفلاطوني للتاريخ، ما وجّه أعماله اللاحقة كما لاحظنا من خلال عناوين كتبه.

يعتبر بيار فيدال ناكيه أن «على المؤرخ ان يشارك في حياة المدينة». ويروي في إحدى مقابلاته: «قبل أن يُرحَّل أبي، عذّبه الغستابو في مرسيليا. فكرة أن تكون أساليب العذاب نفسها قد مورست أولاً في الهند الصينية ومدغشقر ثم في الجزائر على ايدي جنود أو رجال شرطة فرنسيين، ولّدت فيَّ القرف والرعب. ليس لنشاطي أي منابع أخرى سوى هذا القرف المطلق. في عبارة واحدة، إنها الوطنية. أما الحرب على العراق فنعم، أعارضها تماماً. لا أرى إلا سوءاً في صدام حسين، لكن إذا شنّينا الحرب على العراق، خاطرنا بالتسبب في كارثة عالمية. وأعتبر جورج بوش مجنوناً خطيراً، وهو إضافة إلى ذلك يخرق القانون الدولي».

فعلاً، لا يمكن وفاة فيدال ناكيه أن تصادف توقيتاً يتزامن بشكل أفضل مع الموت المأسوي لمئات اللبنانيين. وخصوصا عندما يزداد الإصرار في أوروبا على ربط قضية المجزرة اليهودية بمسألة إسرائيل إلى ما لا نهاية، وعلى «استثمار» هذا الرابط مهما كلّف الأمر. لا شك أن المجازر اليهودية سهّلت نشوء إسرائيل، نظراً إلى أن أوروبا لم تكن تعرف يومذاك ما العمل للتعويض عن الفظائع التي ألحقها النازيون باليهود. لكن المشكلة تكمن في ان اوروبا لا تزال مقيدة بشعورها بالذنب ومعوقة بذاكرتها، وهو واجب الذاكرة نفسه الذي يريد بيار فيدال ناكيه حمايته بأي ثمن، ولكن ليس على حساب شعوب أخرى.

في الأيام الأولى للتدمير الشامل والمجازر التي ارتكبها ايهود اولمرت في حق لبنان، بقيت المواقف الأوروبية خجولة. وكان مستحيلا أن «تدين» وسائل الإعلام الفرنسية ارتكابات الدولة العبرية من دون أن تعيد ذكر المجازر اليهودية، كما شهد الأسبوع الاول للحرب.

كم من فيدال ناكيه نحتاج اليوم لمواجهة جنون الاضطهاد المتفجر لدى الدولة العبرية والصمت المجرم للمجتمع الدولي؟ فالدولة الإسرائيلية، التي يدفعها «الخوف» من أن «تُمحى» عن الخريطة، مثلما سبق وفعلت هي بغيرها من الدول - مهما بدا ذلك سخيفاً بالنظر إلى عدم التساوي المطلق في ميزان القوى - تلجأ إلى غريزتها الحيوانية والمدمرة.

قد يكون حكيماً هذه المرة، عندما تقوم المملكة العربية السعودية وأوروبا بإعادة إعمار لبنان، أن يتم أيضاً تمويل مشروع علاج جماعي للدولة العبرية (علاج طويل الأمد بغية التوفير) لشفاء غالبية الإسرائيليين (95 في المئة من الشعب الإسرائيلي يبرر هذه «الحرب» - إن استطعنا إطلاق هذه التسمية على هذا الصراع غير المتكافئ) من ذاكرة المجازر اليهودية الجماعية التي حوّلت دولة اسرائيل، آخر مواليد الاستعمار البريطاني - الفرنسي، وحشا مصابا بمرض جنون الاضطهاد يتوهّم أنه يحقق العدالة لنفسه من العنف الذي أنزله النازيون باليهود، عبر الثأر من أبرياء.

ريتا باسيل الرامي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى