سعيد محمد دحي .. قصيدة لم تكتمل

> «الأيام» د. سعيد الجريري:

> لأنه الشفيف كقلب الفجر، ولأنه الكثيف كغابة الأحلام، لم يطق سعيدٌ أن يرى أمداء بهجته تهجع كالنسيان، كان نورساً رأى التحليق بعيداً عن الشاطئ الأليف، يُدنيه من ألفته الطفولية كابتسامته، فحلق بعيداً وظل قريباً قريباً، لعله كان يرى صورته تتماهى في رموز أحبّها، فكان صدى لها أو حاكاها موقفاً وإبداعاً.

سعيد محمد دحي (1948-2000) ابن المكلا التي ملكت عليه كل نبضة وهجسة وهمسة ونسمة شوق وحنين. كان يعد، مبكراً، بوعود، كان كل شيء يقول إنه منجزها، وكان يعدُّ أحلامه للآخرين غير آبه، إلا بصفاء الروح وانسرابه في حميمية جمالية، لا تفقه للمهادنة لغة ، أو علامة.

تعود ذكراه، كما في كل عام، منذ أن غادر هذا العالم في 3 ديسمبر 2000م، لتعيد إلينا سعيداً الجميل روحاً وإبداعاً، فنأسى لأن سعيدا مات في الغربة، وهو العاشق الدنف لوطن جميل أعلاه، فإذا هو أسطورته، أو (يوتوبياه) المستحيلة، كـ(يوتوبيا) الشاعر الحبيب إليه بدر شاكر السياب الذي مات غريباً مثله، ولم يمش خلف جنازته محبوه، ومشى خلفه المطر الذي كتب أنشودته الخالدة. مات في غربته كالأديب الحبيب إليه وابن وطنه، على أحمد باكثير، الذي أعلى وطنه وأمته بأدب راق، وألق متجدد.

أكان قدر سعيد أن يخطو على درب باكثير، فيلوذ بالغربة ، تؤنسه إذ ضاق الوطن برؤاه، وإذ انغلق الأفق أمامه؟ ربما.. لكن المفارقة أن سعيداً نعى على باكثير لجوءه ألى المهجر والاغتراب، ثم لما ضاق به الدرب لم يختر غير درب باكثير. وهو - أعني سعيداً- الذي كتب قصيدة يرثي بها باكثير في نوفمبر 1969م بعد أيام من وفاته، وحدا فيها حدو باكثير في ريادته للشعر غير البيتي، قصيدة لم تنأ عن تجربة باكثير، ولم يضع عنواناً مناسباً لها أفضل من باكورة أعمال باكثير المسرحية (همام أو عاصمة الأحقاف) مع بعض التغيير (همام في بلاد الأحقاف).

وبروح الشباب الطامح إلى التغيير ذهب سعيد يرسم لـ (همام) صورة البطل المنقذ المخلص: (همام في بلاده يصارع الأخطار/ يسمع كل يوم صفارة الإنذار/تهوله خطورة الطريق/فيمسك السكان والفرامل/ ويوقف المسير).

ولم يكن يرى الخلاص فردياً، بالهجرة، وإخلاء الساحة، لذلك لم ير في هجرة باكثير حلا، بالرغم من إدراكه قسوة الأزمات التي واجهها في مجتمعه وصعوبات التغيير على المستوى العام، وانفتاح الآفاق -على المستوى الخاص - أمام أديبنا الكبير في مهجره بمصر، فجعلته يحلق في قمم إبداعية، ما كان لها أن تتفتح لو بقي في ربوع الوطن . يقول في القصيدة نفسها عن رمزه (همام):

(السندباد عاد للأسفار/ لكنه على مدى قريب/ يرقب من بعيد/ وا أسفا عليك ياهمام/ وقفت في منتصف الطريق).

وتمضي السنون، ويجد (همام) نفسه مرغماً على الوقوف في منتصف الطريق!! أهو قدر هذه النوارس أن تهاجر؟ وإلى متى؟

أهو قدرها أن تنوح في الغربة، ويشعلها الحنين، فتكتب مراثي العمر، وتحلم بدرب الوطن البعيد؟ ألم ينح سعيد ألما، يناشد طيور المنى وصادحات الأغاني أن تشد رحاله: (إلى حيث يقبع دربي/ على الجسر/ في وطني حضرموت/ هنالك حيث دمي ليس يصدأ/أو يتخثر في الرمل/ بل ينتمي للبراءة والطين).

ويعلو نشيج الحنين، ويعلو، ويعلو:

(هنالك على ساحة من وطن/ تطاول رأسي وأزهر قلبي../ فيا صادحات الأغاني وطير المنى/ ارفعي خطوتي من هنا/ واحمليني إلى وطني حضرموت).

أكان سعيد دحي يستشعر مصير الغريب؟ أكان يخاف الموت غريباً بعيداً عن وطن تجتليه الأغاني؟ ألم يكن في ما كتبه عن باكثير والسياب وموزارت، يحيل إلى سعيد نفسه؟

كتب سعيد في ذكرى وفاة السياب، فذكر ليلة رحيل موزارت التي هبت فيها عاصفة فلم يشيعه إلا عدد قليل جداً ، فدفنه الحانوتي في مكان ما بين زحام القبور، ولم يستطع تحديد مكانه في اليوم التالي، لذلك أصبح القبر مجهولاً حتى اليوم.

وقال عن السياب: «وربما كان هذا عين ما حدث للشاعر الكبير بدر شاكر السياب الذي مات بعيدً عن مسقط رأسه.. وجيء به في ليلة ممطرة.. شهدت مأساة عائلته التي وجدت نفسها بلا مأوى، في بيت الجيران، وجاء النعش الذي حمل الرجل الذي أحب بلاده وشعبه واحترق من أجلهما.. جاء النعش ليستقر في مسجد قريب إلى حين دفنه، ثم لم يشيعه سوى أربعة رجال خامسهم المطر الذي خلده السياب بأروع قصيدة معاصرة».

لكن سعيداً لم يأت نعشه، ولم يصل عليه في مسجد عمر، ولم يوسّد في (يعقوب) فيودعه الشارع الذي درجت قدماه عليه، ونقش على جدرانه ذكريات بهية!

ولست أدري لماذا يلح عليّ مصير المنافي فأذكر غربة الجواهري والبياتي اللذين رحلا من دون أن يكحلا عيونهما بالكرخ والرصافة ودجلة والنخيل!! وأذكر غربة الشاعر الجميل سعدي يوسف الذي غادر المدن التي أحبها (البصرة وبغداد وبيروت وعدن وباريس)، مكرهاً، ولما يزل في غربة المنفى يحلم بالوطن الجميل البعيد البعيد!

سعيد دحي من أولئك، منذ امرئ القيس جده الحضرمي القديم الذي بكي صاحبه لما رأى الدرب دونه، فقال: نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا.. ومالك بن الريب وابن زريق البغدادي، وكل غريب للغريب نسيب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى