قصة قصيرة .. الغريق

> «الأيام» عبدالله قيسان:

> قذفه التاكسي وسط الخضم المتلاطم، في الشارع الرئيس الذي تتفرع منه أزقة كثيرة: سوق الخضار.. سوق السمك.. سوق الأغنام.. سوق القصب، وسوق القات.. سوّى عمامته.. أشعل سيجارة، وألقى بنفسه:

- كم قلت له؟

- ثلاثة ونص.

- ماحد يصطبح بالثلاثة، اشتريت بأربعة؟

تتداخل الأصوات في هذا الشارع الكبير، الذي لا تكاد تجد موضعاً لقدمك فيه.. يختلط الرجال بالنساء والأطفال بالشيوخ.. الباعة بالمتسولين.. المجانين بالمتصنعين والمارة بالمحرّجين.

- على عشرة على عشرة، كل محتاجاتك على عشرة .

- باق باق.. اثنين بعشرة (كان صوت صاحب البقل قوياً) .

ترك الدلالة بعد أن يئس من التوفيق بين الاثنين، ثم واصل الخوض السريع في الخضم.. اتجه يميناً ليواصل زحفه في بحر عظيم من البشر والأغنام، و(جواري) الحمير، حتى وجد نفسه في الزقاق المؤدي إلى سوق السمك، وسط زحمة الحراج.. حشر نفسه:

- الكوم (الباغة).. كم نقول؟

- خمسمائة.

أطبقت عليه يد قوية من الخلف، فاهتز قلبه من قوة القبضة، وكادت عمامته تسقط:

- أيش من جاء حرّج!

- طيب فينك الرجال بايروح.

- بطل طبازة قلت لك (ورمى له حبتين باغة).

ترك حراج السمك مواصلاً زحفه في الزحام، بصعوبة وجد طريقه إلى المخبازة، وفي زقاق بجانب المخبازة، رأى أحد فرسان السوق منتحياً بشحاتة شابة، وحركاتها تقطر غنجاً وعشقاً.

- إيه سواء!

- مالك.. أيش طلبت؟

- رشوش مع السمك.

لم ينه إفطاره حتى ضجت أبواق السيارات، وبدأت في السوق حركة غير عادية، لم يغسل يديه .. جرى باتجاه سوق القات، كان الناس يتزاحمون ويتدافعون.. بدأ الحمالون يفكون الحبال عن (مراقح) القات، ثم يدنون ظهورهم ليحملوها.. كل (مرقحة) إلى (مفرش) فإذا به يتحداهم، ويحمل أكبر (مرقحة) أمام دهشة الحمالين، ويسير بها في الزحمة، ويعود مسرعاً ليحمل الاخرى ، ليظهر كفاءة وتفوقاً في العمل.. ازداد التدافع عندما استوى الباعة على (المفارش).. أخذ أتعابه، وبدأ يشق طريقه بقوة، رافعاً يديه: اليمنى تقبض على شكل (قطل) والأخرى ماسكة (الكشيدة) يحاول الخروج، لكن نصفه الأسفل محاصر.. اشتدت الزحمة لا تكاد ترى إلا الرؤوس والأيدي تتحرك في الهواء، والناس كالغرقى.

وفي شدة التدافع، سقط طفل، ليجد البعض طريقه إلى الخارج، وكان هو أحدهم، تبعثر هندامه.. انقلب حزامه، والعرق يتساقط على عينيه، بدأت الزحمة تخف وهو يبتعد عن سوق القات.. التقاه أحدهم واشترى منه (حبة قطل) واحتفظ بالأخرى تخزينته.. اشترى بثمنها خضاراً وسمكاً وهموم أخرى تحاصره.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى