رجال في ذاكرة التاريخ

> «الأيام» نجيب محمد يابلي:

> الميلاد والنشأة: السيد محمد بن داود بن محمد البطاح الأهدل، من مواليد زبيد في أحد الأعوام الواقعة بين عامي 1890 و 1895م. تلقى علوم القرآن على يد أبيه السيد داود بن محمد البطاح وواصل بعد ذلك دراسة العلوم الدينية في «رباط البطاح» العلمي على أيدي علماء أجلاء هم: العلامة الشهير السيد محمد بن الصديق البطاح والعلامة السيد علي محمد البطاح والسيد عبدالله بن محمد البطاح الأهدل. كانت زبيد قبل ذلك التاريخ وبعده قلعة من قلاع العلم على مستوى الجزيرة العربية، وكان السادة العلماء من آل البطاح من الذين يشار لهم بالبنان في العلوم الشرعية والفقهية، وتخرج على أيديهم من رباطهم علماء انتفع بعلمهم ليس في زبيد وحسب، بل وفي مناطق متفرقة أخرى، وممن تتلمذ على يدي السيد محمد بن داود البطاح شقيقه السيد أحمد بن داود البطاح، الذي أصبح شيخ العلماء في زبيد ومفتيها وأحد شيوخ العلم في رباط جده البطاح.

الإمام يحيى بن حميد الدين يلبي طلباً بريطانياً
تقدمت الإدارة البريطانية في مستعمرة عدن إلى جلالة الإمام يحيى بن المنصور محمد حميد الدين (ملك المملكة المتوكلية اليمنيةة خلال الفترة 1904-1948م) بطلب رسمي بانتداب قاض مؤهل في العلوم الدينية والفقهية على مذهب الإمام الشافعي فأصدر جلالته توجيها باختيار من هو أفضل لملء هذا الشاغر على أن يتم اختياره من مجموعة من علماء صنعاء. تقدم للوظيفة عدد من الأشخاص من الحديدة وبيت الفقيه وزبيد، ورسا اختيار العلماء على السيد محمد بن داود البطاح، الذي قدم إلى عدن عام 1339هـ (الموافق 1920م) حاملا معه موافقة جلالة الإمام يحيى.

القاضي البطاح يدخل التاريخ من حافة القاضي
ورد تعريف (حافة القاضي) أو حارة القاضي في كتابات الراحل الكبير حسين سالم باصديق، حيث أفاد في إحداها (راجع مجلة «الحياة» العدنية يناير/ فبراير 1994م ): «وحارة القاضي تقع ضمن حي العيدروس وتمتد من الناحية الجنوبية من سور (المجنة) الملاصق لمدرسة بازرعة الخيرية الإسلامية..».

ويضيف : «ومن الناحية الشمالية تمتد الحارة حتى بيوت الوقف، وهي عدد من المنازل تقع تحت هضبة المستشفى الأهلي (شرطة كريتر حاليا) التي أزيلت أجزاء كبيرة منها مع المستشفى لتمتد الحارة اليوم إلى سوق البلدية وحل محل المستشفى مركز شرطة كريتر...». ثم يسترسل الطيب الذكر باصديق في تفصيل المنعطفات الثلاثة لحارة القاضي: «المنعطف الشمالي ويسير بمحاذاة موقع مركز الشرطة حاليا الذي حل محل موقع مستشفى مرضى السل أو مستشفى المرحوم محمد عبدالقادر مكاوي والمنعطف الاوسط الذي يمتد حتى مساكن المعسكر، أي الشرطة (POLICE LANE) أما المنعطف الثالث فهو من ناحية غرب الحارة ويمتد إلى جامع جوهر وهو ولي مشهور مع السيد العيدروس.». (راجع حلقة رجال الذاكرة - 1 أغسطس 2004م - الشيخ سالمين باسنيد والأستاذ عمر باناجة).

القاضي البطاح في ضيافة المنصب العيدروس
أصدرت الإدارة البريطانية قرارا رسميا بتعيين السيد محمد داود البطاح قاضيا شرعيا لعدن في العام 1920م، وحل بداية ضيفا على منصب عدن الشيخ العيدروس وسكن في منزل قبالة مسجد العيدروس بكريتر. جدير بالذكر أن الحي الشهير في كريتر (عدن) بالعيدروس انتسب لمنصب عدن العيدروس ولمسجده العريق (مسجد العيدروس) وأن الحارة الشهيرة في كريتر (حارة القاضي) انتسبت للقاضي محمد داود البطاح، أي أنها حارة القاضي (البطاح).

اشترى القاضي البطاح منزلا من أسرة الموشجي، وكان المنزل مكونا من دورين خصص القاضي البطاح الدور الأرضي لممارسة مهام عمله، فيما خصص الدور الأول سكنا له، وكان موقع البيت في الحارة نفسها التي انتسبت له لاحقا (حارة القاضي) واعتمدت حكومة عدن تلك التسمية شارع القاضيQADHI STREET وبعد فترة قصيرة عُيّن القاضي البطاح (قاضي القضاة) والتي شملت كل الوحدات الإدارية لعدن (1- بلدية عدن التي شملت كريتر وخورمكسر والمعلا والتواهي، 2- سلطة ضواحي الشيخ عثمان ، 3- سلطة ضواحي عدن الصغرى).

الأهالي يتجمهرون أمام منزل القاضي البطاح
اكتسب القاضي البطاح شهرة بإصدار الفتاوى الشرعية والمصادقة على الأحكام الشرعية، إلى جانب مهام عمله مأذوناً شرعياً، واتسع نطاق شهرته عندما كان الأهالي يتجمهرون أمام منزله في انتظار خروجه من المنزل ليعلن عليهم حلول أول شهر رمضان المبارك أو أول شهر شوال أو ما كانت تعرف بـ (الأهلة) أي ثبوت رؤية الهلال لإعلان المناسبة المباركة، وكان القاضي البطاح يعتمد على شهود عدول أغلبهم من الصيادين الذين كانوا يخرجون إلى سواحل عدن قبل ساعات الفجر وتتضح لهم رؤية أو غياب الهلال، وتعارف الأهالي على تسمية الشارع الذي كان يسكنه القاضي البطاح بـ «حافة القاضي» (كان سكان عدن يستأنسون للفظة «حافة» ولذلك تداول الناس تسمية الشوارع بالحافة مثل: حافة الدبع، حافة لودر، حافة حسين، حافة اركزه، حافة القاضي، وحافة الأصنج والأخيرة هي الحافة التي يسكنها كاتب هذا الموضوع وهي من الحوافي المشهورة في الشيخ عثمان ونسبت لآل الأصنج وأبرز رجالها أحمد محمد سعيد الأصنج وعبدالمجيد محمد سعيد الأصنج وعبدالله عبدالمجيد الأصنج).

الموشجي يتكرر في سيرة القاضي البطاح
أشرنا سلفا إلى أن القاضي محمد داود البطاح اشترى منزلا من أسرة الموشجي ليصبح سكنا له وتقرب بعد ذلك من أسرة الموشجي ليكمل نصف دينه وذلك في إطار (السكن) امتثالا لقوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} الروم/ 21 . وتم الإعلان يوم 5 أبريل 1923م الموافق 18 شعبان 1341هـ عن اقتران القاضي محمد داود البطاح من شقيقة الشخصية المعروفة عبدالله علي موشجي (والد حسن موشجي أطال الله عمره ومتعه بالصحة)، وأبرم عقد النكاح الشرعي علي يد القاضي عوض عبدالله عمر شرف، وكان أبرز الشهود والحضور: السيد عبدالله عيدروس العيدروس والسيد حسن العيدروس والشريف محمد بن حسن الرفاعي (أولاده: منور وعبدالمطلب وطيبة وأحمد شريف الرفاعي وحسن وياسين ومصطفى وإبراهيم وأسماء وزينب وكلثوم وعديلة وزين الشرف) - المصدر أحمد منور شريف. كما كان من بين الشهود والحضور: السيد أحمد بن طه الصافي والسيد محمد بن محسن الصافي ومحمد سالم علي العدني.

القاضي البطاح ودائرة اجتماعية واسعة ومحترمة
تمكن القاضي محمد داود من إقامة وتوسيع دائرته الاجتماعية كماً ونوعاً، وقد ربطته رحمه الله علاقات ودية بعدد من الرموز الدينية والعلمية والتجارية والاجتماعية منهم: عبداللطيف بازرعة وحسن بازرعة وعمر بارحيم والشيخ كامل صلاح والشيخ محمد بن سالم البيحاني والشيخ علي محمد باحميش وسيف الصيرفي والحاج مكرد والعيسائي وسالم باحاج والسادة آل العيدورس وآل باهارون والزوقري ومدي وغيرهم، وكان رحمه الله يشارك الأهالي بحضور الزيارات: العيدروس والهاشمي والعثماني والشيخ أحمد العراقي وغيرهم.

القاضي البطاح بين مسجدي العيدروس وبانصير
كان القاضي البطاح رحمه الله يؤدي صلاة الجمعة إماماً وخطيباً في مسجد العيدروس بكريتر باعتباره القاضي الشرعي لعدن، فيما كان يؤدي فرائضه الخمس في مسجد بانصير القريب من بيته وفيه أيضا كان يؤدي صلاة القيام طيلة ليالي شهر رمضان المبارك.

القاضي البطاح من مؤسسي جمعية الشباب اليمني
كان القاضي محمد داود البطاح واحدا من مؤسسي جمعية الشباب اليمني في 8 مارس 1947م الموافق 17 ربيع الثاني 1366هـ ، وبلغ عدد أعضائها 20 عضوا منهم: السيد محمد داود البطاح (قاضي عدن) الشيخ محمد علي طه الهتاري، الشيخ علي محمد باحميش، الشيخ محمد قاسم سلطان الشميري (والد الشيخ أمين قاسم)، الحاج سلام سعيد القدسي (والد الشخصية التربوية والرياضية والنقابية عبدالجبار سلام)، الأديب محمد عوض بامطرف وآخرون. وصدر قانون الجمعية في 25 سبتمبر 1947م.

حكومة عدن تحيل القاضي البطاح إلى التقاعد
تلقى القاضي البطاح مذكرة رسمية مرجعها 19/1/167م بتاريخ 31 مارس 1955م ممهورة بتوقيع كبير سكرتيري الحكومة بالوكالة (كانت السكرتاريةSECRETARIAT هي الجهاز التنفيذي لإدارة حكومة عدن، وهي عبارة عن مجلس وزراء مصغر وفاعليته تفوق فاعلية مجلس الوزراء حالياً)، أفاد مضمون المذكرة بأنه (أي القاضي البطاح) قد وصل سن التقاعد 55 عاما اعتبارا من 15 أبريل 1955م، وحل محله فضيلة الشيخ علي محمد باحميش وكان خير خلف لخير سلف، وأنه بموجب اللائحة العامة 111 فإن استحقاقه من تراكم الإجازة بلغ 72 يوما، حيث يبدأ إجازته اعتبارا من يوم تخليه عن منصبه وأن المحاسب العام للحكومة سيبلغه باستحقاقه الشهري من المعاش في الوقت المناسب، وبناء على ذلك سيقوم سماحة القاضي بتسليم الفاضل قاضي المحكمة العليا كافة الوثائق والسجلات والمتعلقات الأخرى بعمله.

جلالة الإمام أحمد يعين القاضي البطاح حاكماً لزبيد
أصدر جلالة الإمام أحمد بن يحيى بن حميد الدين ملك المملكة المتوكلية اليمنية قراراً بتعيين القاضي محمد داود البطاح حاكماً لزبيد في يونيو 1955م، وكان القاضي البطاح في زيارة لأهله بعد غياب دام 35 عاما. أمضى القاضي البطاح في منصبه حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م وأراد المشير عبدالله السلال، رئيس الجمهورية العربية اليمنية الإبقاء على القاضي البطاح في منصبه إلا أن سماحته طلب إعفاءه من مهام منصبه لأنه قد أدى ما عليه من خدمة للمجتمع طيلة 42 عاما.

القاضي البطاح ينتقل إلى جوار ربه
خلد القاضي محمد داود البطاح إلى الراحة في بيته راعيا وناصحا لأهله وناسه حتى اصطفاه الله إليه يوم 15 أغسطس 1982م في مدينة زبيد، ودفن إلى جوار نجله علي ووالديه، مخلفا وراءه رصيدا ضخما من المحبين والمريدين وولداً واحداً اسمه عبدالله وعدداً من الأعمال هي:

1- «الرسالة المسمية بالانتصار لشريعة المختار في الرد على من جعل أولاد المسلمين كفارا» طبع في مصر عام 1924م.

2- رسالة النبذة العدنية.

3- كتاب «الفراض بشرح الفياض» شرح كتاب علم الفرائض المسمى «الفياض» تأليف العلامة علي بن الجمال الأنصاري، قام القاضي البطاح بإكماله عام 1927م وما يزال مخطوطا.

4- كتاب في الفتاوى والمواعظ.

ذرية القاضي لا تزال في حافة القاضي
خلف القاضي البطاح ولدين هما علي وعبدالله، وهما من مواليد عدن. غادر علي بعد إكمال تعليمه الثانوي إلى زبيد للاستزادة والتخصص في علوم الشريعة والفقه، إلا أنه توفي في زبيد. أما عبدالله فقد أكمل تعليمه الثانوي وعمل في عدد من المرافق منها البنك البريطاني ومكتب الجبلي وشركات أجنبية أخرى، والتحق بمرفق الثروة السمكية بعد الاستقلال، وتقاعد عن الخدمة في أواخر التسعينات في منزل الأسرة بحافة القاضي.

من أولاد عبدالله محمد داود البطاح «علي» الذي زودني ببيانات هامة عن جده القاضي البطاح وصورة شخصية له.. ولعلي البطاح جزيل الشكر على كل ما قدمه لي عبر صديقي محسن عبده قاسم، وللاثنين كل تقديري.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى