احتضار المصطلـح في السياسة العربية

> محمد الرميحي:

> أول آثام المثقف العربي هو عمله في السياسة تبريرا لغير المبرر ، ،فهو يتوسل الوصول إلى السلطة بما أوتي من قدرة كلامية ومصطلحية ومعلوماتية، تضلل العامة وتسيرهم خلفه. ومتى حصل على السلطة أو جزء منها عصف بما كان ينادي به. والمصطلحات التي ترفع في الفضاء السياسي العربي كثيرة، هي تارة وطنية وهذا اضعف الإيمان، وتارة أخرى وذلك انكى، يتوسل السياسي بالمصطلحات الدينية.

تصريح منشور في زاوية قد لا يلحظها كثيرون للسيد حسن الترابي الاسبوع الماضي يعترف فيه بما سماه "ارتداد المشروع الإسلامي" في السودان فـ"لم نكن مؤهلين للسلطة عام (1989) خصوصا أننا قفزنا للسلطة من دون وعي أو تجربة أو برنامج!!"، و أكمل قائلاً "أفسدتنا السلطة، وأصبح الأمين عندنا لصا بعد وصوله الى السلطة"!!

التصريح طويل وموثق، وقد لا يعني للكثيرين شيئا جديدا من الترابي أو من أمثاله الذين خلطوا السياسية بما يعتقدون انه تدين، فلما فشلوا في السياسة لاموا الدين!! فجاءت النكبة على الاثنين. على السياسة لفرط آثامهم فيها دون نتائج ايجابية للناس، وعلى الدين لأنهم أثموا فيه أيضا وحمّلوه مصالحهم الشخصية،واستدعوا الشعور الديني الذي هو ملك عام للناس أجمعين، لمصلحة المشروع السياسي الخاص بهم.

ليست حركة حسن الترابي التي هيأت لوصول السودان إلى ما وصل إليه من تفتيت واضطراب وحروب أهلية، هي المعنية بهذا الكلام. المعني في حقيقة الأمر يتجاوز حركة الترابي ليصل إلى كل هذا الخلط الشديد في فضائنا العربي بين "التدين والسياسة". وهو خلط فيه من التناقض ما لا يخفى على الفطن من الناس، وفيه من الانتهازية ما لا يستر. فلا عصمة لشخص، فقيم الدين مثالية ومطلقة وهي قيم روحية وأخلاقية بالغة الثراء وعامة لمن تقيد بها، ولا يجوز لأحد أن "يختطفها" ويختص بها نفسه وحزبه ويخرج الآخرين من إطارها.

في السياسة يضطر السياسي أن يكذب، أكان ذلك بوعي أو بغير وعي، ويضطر أن يعد ولا يفي. وهو إن توسل الدين وطرقه لجلب المنفعة السياسية إليه أو إلى مناصريه، يكون قد ارتكب خطأين فأساء إلى السياسة كما أساء إلى الدين نفسه. والسياسي كبشر معرض للخطأ كما هو معرض للصوشب. فإن ربط بين أفعاله وتعاليم الدين ، أي دين، يكون قد أساء لذلك الدين إساءة بالغة. لذلك فان أصواتاً كثيرة ترتفع اليوم بين أولئك الذين توسلوا الدين في حياتهم في مرحلة سابقة كطريق للنجاح السياسي، ترتفع أصواتهم لمراجعة ذلك المنحى الخطر الذي يعرض الثوابت لدى البعض إلى الاهتزاز جراء ما يشاهدونه من أفعال تتناقض مع الأعمال، تظهر وإن خفيت لفترة زمنية قصيرة.

في حديث الترابي منحى أخر وهو فساد الكوادر التي اعتقد أنها "مخلصة" لقد أفسدتهم السلطة كما قال،وهو وغيره يعرف أن السلطة مفسدة،وان السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. ذلك ليس بالجديد، خصوصاً إن كانت السلطة تعتمد في إطلاقها على تحريم النقاش في الأمور العامة على أساس أن هناك نصوصاً تحكمها لا يستطيع بشر أن يناقشها. وهي نصوص يكيفها أهل السلطة المتسترون بالدين كما يشاؤوه خدمة لمصالحهم الضيقة. واللافت أن بعض القوى التي تتوسل "الدين" تختلف في ما بينها في السياسة كل الاختلاف رغم الادعاء أن لها مرجعية واحدة. ودون وعي منها تتناقض في المشهد السياسي الواحد وتحترب بين بعضها. في السودان حزبان على الأقل مستندان الى المرجعية الدينية، وفي غيرها من البلاد العربية تجد أكثر من تجمع سياسي و"تكتل" برلماني يدين في العلن بالمرجعية نفسها، ويصارع الآخر في السياسة!!

النقاش في هذا الأمر لا يخص الموضوع السوداني، وان كان هو الأكثر تعبيرا عن المأزق. هو يخص العدد الوافر من الأحزاب والتيارات التي تتستر في السياسة بستار الدين. كما انه لا يخص عصرنا فقد خاضت شعوب قبلنا هذا المنحى ووصلت إلى توافق بعد الكثير من العناء على أن السياسة هي تدبير أحوال الناس، تصح مرات ولا تصح مرات أخرى. وهي اجتهاد إنساني بحت له علاقة بالمصالح المرسلة ويتغير حسب تغير الأزمان. تلك خلاصة ما توصلت إليه ثقافات أخرى،وهو خلاصة إنسانية.

استدعاء الدين في السياسة خطاب ليس خاصا بالإسلام، فقد استدعاه الكثير من الأديان والطوائف، الصغيرة والكبيرة، على مر العصور. بل منذ الخلاف الفلسفي في أثينا القديمة، تحقيقا لمصالح ضيقة للبعض. وهو احد مناطق الجدل العميق اليوم في العالم.

إلا انه في السياسة العربية "خلل مستوطن" إن صح التعبير، مرّت عليه مدة طويلة من الزمن دون أن يحسم لمصلحة المواطنة والتحديث. فقد تم اصطياد المصطلحات الدينية عندما توجه البعض لفرض ما سمي في فترة الاشتراكية العربية. فسعى البعض إلى تأصيل "الروح الاشتراكية" وإرجاعها إلى الدين. ثم صار الاتجاه إلى قوى السوق الاقتصادية وحرية التداول والملكية، فذهب البعض يفتش عن نصوص لوصل هذا المنحى السياسي الاقتصادي بالدين أيضا. وهكذا نجد الاستخدام السياسي الموقت من البعض اعتمادا على روح ثابتة لدى الناس كونهم مؤمنين حقيقيين.

السياسة هي التصالح على قيم الحكم في المجتمع والتي تحوى من بين أمور أخرى المساواة بين المواطنين، وتطبيق القانون بعدالة ورحمة حفاظا على التوازن الاجتماعي الذي يراعي الحدود ويحفظ الحقوق. وإلا لما التجأ كثيرون إلى وضع الدساتير وفصل السلطات وإقامة الرقابة الشعبية، والحض على حرية القول والنقد، وكلها تفترض أن القائمين على السياسة بشر يخطئون ويصيبون. وان تصويب أعمالهم خاص بالناس في هذا الدنيا.

صيحة الترابي الذي يتبرأ منه اليوم كثيرون، لا تعفي من النظر إلى التجربة في العديد من الأماكن على أنها تجربة إن تجاوزت إسعاد البشر في الدنيا ، لن ترقى إلى إسعادهم الروحي.

كل ذلك يعود بنا إلي القول إن المصطلح في السياسة العربية مريض ويكاد يحتضر، وآن الوقت لكي يصحح بشجاعة.

عن «النهار» اللبنانية 20 مارس 2007م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى