قبس من نور عبدالله هادي سبيت

> «الأيام» د.يحيى قاسم سهل:

> لعل جلال الكلمة وقدسيتها يتجليان في أبهى صورهما حين يكون الحديث عن شخصية بمستوى الفقيد عبدالله هادي سبيت الذي صال وجال في هذه الدينا بكل ما فيها من تعدد وثراء وتنوع، وكانت السنوات التي عاشها حياة بذاتها، ولم ولن تنتهي بوفاته إذ إن موت الشعراء ولادة جديدة، وحضور متألق في الوجدان والذكره الوطنية. وإذا أسهمت تبدلات الزمن في نسيان وطنيات سبيت التي تغنى بها اليمن سهلاً وجبلاً وجنوباً وشمالاً فستظل روائعه المغناة مسك أعراسنا وأهازيجنا وأقماراً تضيء في ليل العاشقين. إن عظمة سبيت تكمن في الإرث العظيم الذي خلفه لنا وهو كثير ويكفي سبيت أنه هو الذي نحت هذه الكلمات البسيطة السلسة في وجه الزمن:

لا قد هرج يابوي - يمهسس السامع

ون قد سكت يابوي- من حرقة العينين

يابوي أنا لا ناس - يابوي أنا

قلبي يقع مرواس يابوي نا

مليت كل الناس من بعد نظرة عين

إن عبدالله هادي سبيت ليس رقماً في الإحصاء السكاني، بل هو إضافة للحياة سيبقى خالداً خلود الحياة ذاتها، بوصفه أحد العلامات البارزة في حياتنا، ثم إن سبيت ليس شاعراً فحسب، بل هو الملحن والمطرب. ناهيك عن أنه مناضل مؤمن إيمانا مطلقا بأن الثورة هي في المقام الأول فعل ثقافي، لذلك وهب حياته مناضلاً بالكلمة الحرة الشريفة والمنزهة عن كل فتات الدنيا، وهو علاوة لما سبق الفقيه، وفي كل هذا التنوع كان مبدعاً. ففي فضاء الفن كان وسيبقى (علما برأسه نار) بوصفه واحدا من أعلام الفن اليمني الذين شكلوا الذائقة الفنية اليمنية بألحانهم وهو رائد الأغنية الوطنية دون مناز ع من حيث الكلمة الصادقة واللحن الرائع الجميل والعطاء في الإبداع.

هذا ولم يتماه إنسان مع الوطن كما كان سبيت: أليس هو القائل:

وطني ما عشت إلا لرضاك وسأقضي العمر حباً في هواك

وهو القائل ايضاً:

طعم المنية نحو تحقيق المنى كالشهد بل كحلاوة الإيمان

والشواهد لاتعد ولاتحصى فأشعاره وألحانه وكلماته كأني بها لاتزال تصدح مجلجلة في الآفاق لتعلن أن الخلاص قريبـ وأن لغة السلاح هي اللغة الوحيدة للخلاص من المستعمر.. وهذا ما تأكد وتحققت أحلام سبيت وأشرقت الشمس من أرض العروبة ورحل الأجنبي الدخيل من جنوب اليمن، بعد أن سمعت الجماهير سبيت يشدو من صوت العرب:

أيها المحتل أرضي لا وربي تظلا لا وربي لن تلقى بها ماء وظلا

هاك تاريخي من آفاقها اليوم أطلا

وإذا كان سبيت بدأ حياته الأدبية شاعر مناسبات ثم اتجه إلى الغزل أو على حد قول الناقد عبدالله باذيب في عموده الصحفي (تحت المشرحة) «شاعر طبقة فارغة تنقرض» فإن تلك كانت مرحلة عابرة، لتبدأ مرحلة تغزله بالوطن سواء بالفصحى أم العامية. وقد خاطب الوطن قائلاً:

كلما آلمـني فـيك الجفا زدت للموت اشتياقاً في حماك

أفلا يرضيك مني أنني بـائـس منـسلخ فـوق ثـراك

وكما سبق القول أن سبيت قد تماهى مع الوطن ومن ذلك قوله:

يابلادي سكبت العمر في كأس حبي

ذبت لوعه وحرمان

يابلادي نهب قلبي الهوى أيش ذنبي

غير لي في الهوى شان

ملك لك في الهوى جسمي وروحي وقلبي

أنت يا تاج الأزمان

ويذكر الفنان الكبير محمد مرشد ناجي في كتابة الموسوم (أغانينا الشعبية) الصادر في أواخر خمسينيات القرن الفارط في صفحة (193) أن عبدالله هادي سبيت: «سجل عملاً فنياً مجيداً في مضمار الشعر بذكائه الفطري، وإحساسه المرهف، وثقافته المتوسطة، والمهم في الأمر أن ابن هادي لم يكن زنديقاً ولا منافقاً في أوصافه التي أصبغها على بعض قصائده».

ويذهب د. عبدالعزيز المقالح في كتابه الموسوم (شعر العامية في اليمن ) إلى القول إن سبيتاً واحد من الشعراء الذين لهم إنتاج معترف به على السواء في الحقلين الفصيح والعامي. وليس كل من كتب قصيدة بالعامية (وهو شاعر فصيح) أو قصيدة بالفصحى وهو شاعر عامي - ليس هؤلاء هم المقصودون بهذه التسمية ولا تنطبق هذه الصفة التي تجمع بين العامية والفصحى عند شعراء اليمن المعاصرين إلا على الشعراء التالي أسماؤهم:

1. عبدالله هادي سبيت

2. علي صبره

3. عبدالله سلام ناجي

4. مطهر الارياني

والمتأمل في شعر سبيت يلاحظ أنه أوقف شعره العامي على أغاني الحب والوصل والهجر والجفاء وذلك على عكس شعره الفصيح الذي سجل فيه سائر الأغراض التقليدية من مدح ورثاء وفخر وسياسة وغزل ايضاً كقصيدة استغفار وهي من أجمل غزلياته بحسب رأي د. المقالح:

أنا يا حواء قلب ذائب بين الحنايا

أنت ياحواء آها تي وأنسام شذايا

وكما كان سبيت ثائراً مناضلاً باذلاً للروح في سبيل انعتاق الوطن من أغلال المستعمر فقد كان ثائراً ومتمرداً على المستوى الفني (ويحسب له محاولته الجريئة - كما يقول المقالح) في التخلص من النمطية التي سادت القصيدة العامية قبل ظهوره وحتى بعد ظهوره.

فقد حاول التجديد في الأوزان، كما حاول الخروج على النمط التقليدي للموشحة وتقسيماتها التقليدية من مقطع وبيت وموشح وتقفيل.. الخ. د. المقالح (شعراء العامية في اليمن) ص 417، ويمتاز سبيت كشاعر وغنائي بجمالية الصورة الشعرية بعيداً عن التعقيد لاتسام الشعر لديه بالتلقائية والصدق الشعوري والفني.. الخ.

وإذا كان شعراء العامية استطاعوا من خلال معايشتهم للناس أن يسايروا تطور الحياة. فإن سبيت أبدع أيما إبداع في توظيف لهجة الحياة اليومية توظيفاً رائعاً، إلى جانب قدرته على التنويع النغمي (بحسب الباحث عبدالكريم أسعد قحطان) الحاصل من ظاهرة التقسيم وتنويع التراسل الوزني وتوالي الأصوات الغنائية وكذا التشكيل الهندسي المنتظم في فضاء النص، كل هذا جعل النص ظاهرة نغمية أكثر من كونها تعبيراً وجدانياً باللغة.

ولم يتأت كل ذلك لسبيت إلا لكونه ولاسيما في شعره الغزلي يرسل نفسه على سجيتها من غير تكلف.. فشعره فيض من الشعور الصادق.. والتعبير الصادق.. لا يحتفي بالبذخ ولا الزخرفة اللفظية.. بل يعبر عن هواجسه وخواطره بعبارات بسيطة.. مألوفة.. سهلة ولكنها ذات رقة.. وصفاء ولطف ووداعة.. ولذلك قال عنه الفقيد عبدالله باذيب:«ابن هادي إنسان مفرط الحساسية».

ويصف المرشدي في كتابه سالف الذكر الشاعر عبدالله هادي سبيت قائلاً«بأنه فلتة من فلتات الطبيعة يحتار القلم في الكتابة عنه.. فهو شاعر رقيق واسع الخيال واضح الأسلوب، يكاد لا يدانيه أحد من شعرائنا في الشعر الشعبي أو ما نسميه الحميني» وشعر سبيت عند الشاعر لطفي جعفر أمان:«شعر صاف كالنمير ينشأ من إحساس تمرغ بتربة لحج..».

أما الأديب والشاعر الأستاذ عبدالله فاضل فارع فيرى:«أن ابن هادي يعد ثروة فنية هائلة في مجال الشعر الشعبي». وبصرف النظر، عن هذه الآراء الانطباعية من أدباء وشعراء كبار في بلادنا والتي مضى عليها قرابة ستين عاما، فإن سبيت مظلوم من قبل الباحثين والمختصين ولم ينل حظه من الدراسة والقراءة النقدية الجادة التي ترتقي إلى إرث سبيت العظيم، باستثناء بعض الشذرات التي حاولت الوقوف عليها، ولذلك نرى أن التكريم والاحتفاء بهذا العلم هو في إعادة طباعة أعماله ونقدها لإثراء المشهد الثقافي اليمني، وتعريف الأجيال المعاصرة بأحد الصروح الثقافية والثائر والزاهد والفقيه المنفتح والمتفتح، الذي بعد عمره الحافل بالنضال والإبداع، وبعد انتصار المثل والقيم التي كانت صنو حياته آثر العزلة تاركاً الساحة للذين اصطفوا مع الثورة بحثاً ولهثاً وراء مغانمها.

أما عبدالله هادي سبيت ولوحاته التي رسمها بالكلمات ورصعها بفل لحج سيبقى حضورا سرمدياً ، وليست هذه السطور إلا مجرد إشارة إلى الشاطئ الذي يدل على البحر.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى