في الذكرى الـ16لفقيد الغناء اللحجي الصنعاني صوت تبن المتجدد

> «الأيام» جمال السيد:

>
جمال السيد
جمال السيد
قُبِضَ أبونا في عيدين: أضحىً مبارك، وتموز جباّر.. وجاء عيده الأدبي في (يوم الربوع)، وفي هذا الصيف القائض، الصيف الذي يضيّع اللبن. محمد سعد صنعانيّ فم الطرب بلا خَنّة، إنه لحجي؛ ولحج هي نبع المعرفة الصافي المتجدد، وهي نهر الطرب الحي. على قممها السود نصبَ بنوها عروشاً لودٍّ ونكرح، مناراتِ هدىً أولى، وفي بطون وديانها السيالة جعلوا لعبقر مسكناً مقدساً، ومن جمال سفوحها العامرة بالخضرة والثمار نظموا أناشيدَ وأغاني ألهمت العالم وما تزال، ومن بخورها وعفصها والفاغية حفروا لأيزوس وعسرخ في ذهن الأسطورة مجداً عالمياً عاليا.

ظلّت الأغنية اللحجية زمناً ترفل مزهوّة في ثوب (شيناوي) قمنداني بديع كذاك الذي اشتراه العبدلي لصاحبته (عيشة):

تقول عيشه تبا الاّ ثوب شيناوي وعقده زين

يـا مَن يبا عند عيشـة يدفـع الألفـين

ولكن من القديم ما لا يعتق .. وهذه أغنيتنا اليوم تلبس على أيدي الصنعاني واخوته (ويلاً) جديداً شفافاً مشجّراً، ألوانه تسرّ الأذن والعين والخاطر.

ما أن نصل بوابة ستينات القرن العشرين حتى يطلع (أبو اسمهان) من ثنايا الندوة اللحجية يعدو به الوتر في ميدان التلحين، ونرى اللحن يلبس جديداً. إنّ الصنعاني في ميدان التلحين ثالثُ سبعةٍ إذ هم في بطن العود: عبدالله هادي سبيت الشاعر الثائر المجدد المُجيد، وفضل محمد اللحجي الموسيقار الشهيد، وأبو عبدالمجيد الأمير عبدالحميد، والأمير محسن بن أحمد مهدي، وصلاح ناصر كرد، وسعودي أحمد صالح، ولا بأس من أن نضيف إلى هؤلاء عيسى وكريشه وحنش ومهيد وابن عنكاو؛ فعلى يد هؤلاء جميعاً يستقيم دورٌ متين آخر من أدوار الغناء اللحجي.

أدرك الصنعاني باكراً أن الأغنية اللحجية هي عنوان الطرب العربي كلّه، وهي أصله وفصله وسرّه، وعلِمَ – وهو المتخصص المختص- أنْ ليس لبلد في المسكونة أكثر من إيقاعين اثنين أو ثلاثة، في حين تزخر لحج بأكثر من عشرين إيقاعا رئيسا أو تزيد، فانتفض العرق اللحجي الأصيل فيه ووضع (بالعيون السود) و(كان يا ما كان في ماضي الزمن كان لي محبوب) ، و (دق عودك غنّ يا بلبل تبن) متجاوزاً (ربع التون) قصد تمكين غير العربي من استساغة واستطابة لحننا اللحجي العجيب.. وخرج اللحن من دهاليز الزمن السليماني، والعباء القمنداني إلى فضاء رحب آخر.

.. ولما رأى (أبو عبدالقوي) أهل بلدته، بكل موروثهم الثّر، منطوين على أنفسهم، يخبطون في العفوية والمحلية، قد مسّهم التحنّط بشرّه، ينظرون إلى الوراء، خشي أن يمسخهم الله أعمدة من ملح كما فعل بامرأة لوط، فهبّ يعلمهم التدوين الموسيقي (النوتة) كي يُسمِعوا العالم ما أبدعته الروح اللحجية الحالمة من فنّ ، ومن شعر ، ومن فكر، وليتدربوا على طعم فن الآخر والتطعّم به؛ لأن التطعيم خير الوسائل لترقية الأنواع.

وكانت للصنعاني درايةٌ كافية باللغة وصرفها ونحوها. ما كان، رحمه الله، يلحن في القراءة أو يتقرّأ في اللحن. إذا غنى الفصيح سعدت الفصحى بغنائه وغناه. مكّنته معرفته للغة وأسرارها من إتقان اختيار النصوص، وقادته نفسه الشاعرة وبصيرته بخوافي الكلم إلى خلق الروائع.

إنّ الشعر موسيقى، ولذلك قالت العرب: أنشد فلان قصيدة. وقد كان الصنعاني شاعراً مبدعاً استطاع إنشاد القصائد. ودلتنا حسن قراءته الموسيقية للشعر على مكانته المتميزة في صرح الغناء اللحجي. ليس قراءة النص موسيقياً بالأمر الهين بل هي تتطلب إدراكاً بعيداً لمعنى النص، وبمقدار عمق فهم النص يكون جمال اللحن. والأصعب من ذلك وضع المقدمات الموسيقية للأغاني، وهذه تعني قراءة معمقة ثانية للنص الملحن، لا يقدر عليها سوى قلب موهوب متفرد، وقد أبدع الصنعاني في هذا وفي ذاك وأجاد، ويكاد لا يدانيه أو يقاربه في موضوع المقدمات أحد.

أما في اللحن فدونك رائعة عبدالخالق مفتاح (بالعيون السود) التي قرأها الصنعاني موسيقياً فكانت درّة فريدة انتظمت في عقد الغناء اللحجي، تحلّت بها العواطلُ الحسان، وكانت (لَبّةً) على صدور بنات (لِحْسان)، وازدانت بها العمامة العبدلية. وأما من حيث المقدمات الموسيقية فيكفي أن أدلك على (لوعتي)، وأخواتها كثار.

وفوق ذلك حبا الله الصنعاني صوتاً آسراً فيه شجىً وشجن حلوٌ نادر، وفيه صفاء ماء السماء، وموسيقية ابن كلثوم، فجاءت ألحانه وأغانيه كأنها الشهد المصفى. وأنت لا تعدم مع الصنعاني تلك الروح اللحجية المرحة حيث يضفي على النص المبتسم مرحاً وحسناً عجيباً. استمع له وهو يلقن مستمعه تلقيناً:

كحيل العين جاهل زين أقلش

وفي خده رأيت الورد أفتش

وتفاح الوجـن حالي مقرمش

فسبحان الذي صوّر ونقّش

ويمشي زين زين ـ كحيل المقلتين ـ ولا ادري أين أين

كحيـل العين بالواله مرشرش

عليه مدكـم ومدحـش

انظر ، إن (رأمشة) الشاعر والملحن/ المغني ظاهرة. حاولا تزيين الزين في عيون السامعين، وناديا على بضاعتهما: «اشتروا منّي كبزرة لحجي».. وكما تدافع العشاق وتداحشوا للظفر بالزين المنقّش، تداحن الشعراء والمغنون وتدافعوا للفوز بروائع الصنعاني الحسان.

وكما استخرج مسرور بن مبروك من نار (عبادي) المدفونة درراً، واجتلى القصائد على القات المُبَرّح والمداعة، استوحى (أبو عبدالقوي) من سكون ليل الحوطة المحروسة ندى الفجر وسلاه، فكانت سلوى وندى واسمهان ألحاناً لحجية اصطفّت إلى ألحان: (بكشفه للثام)، (إن خلف لي الخل وعدا)، (دق عودك غنّ يا بلبل تبن)، و:

لوعتي والحب والهجر الطويل

يأمروا دمعي على خدي يسيل

والهوى عذّب فؤادي والجميل

ما رحمني صاحب الخد الأسيل

.. آه، كم زمن الفضائيات هذا مفيد. إنه خير زمن لمجد الأغنية اللحجية؛ لن نبقي عليها (برتقالة) ولا (جنظاله)، وسنملأ الدنيا شعراً وطرباً غالياً يشبع العقل والوجدان، فمن لأغنيتنا بصنعاني آخر يسمعها للعالمين؟

لقد نفخ الصنعاني من روحه فيما وضع من ألحان، فأرانا في كلّ لحنٍ عرقاً ينبض، وفي كلّ جملةٍ موسيقية حياة لحجية تمور بالدفء، وبالمحبة والسلام. أفلا يكون له في داره ـ وهو ربّ الدارـ مكان يسند إليه رأسه؟ كتاب يعرّف الناشئة به وبفنه؟! أما كان صنباطيّ اليمن ورحبانيّه وحلوه؟.. أما تستحون؟!! قال لافونتين على لسان الوطواط: أنا طيرٌ وهذان جناحاي، أنا فأرة فلتحيَا الجرذان....

ولما كان لابن السلطان جرامفون، اصطنع الولد محمد لنفسه من علبة الكبريت الفارغة حاكياً يهاتفه.. وكبُرَ المعلم الفنان مسحولاً من متردّم الدار إلى باحة المسجد.. هو شقاء من تدركه حرفة الأدب..

لا يُكْبِرُ التاريخُ شعباً لم ينلْ

أدباؤهُ حظـّاً من الإكبار

ليس ملكوت الفن أكلاً وشرباً وتخزيناً، بل وحياً وإلهاماً. أما رأيتم كيف قدّر الصنعاني الصمت واستوحاه؟! إنّ الطبّال والزمّار يضخّمان صيت العرس، ولو كان (الحريو) أسود أنود كصاحبة الدميح.

لقد امتلأت حياة أبينا بالروائع التي تزهى بها إذاعات الوطن وقنواته، وتفخر بها لحج كل الفخر.

إنّ (أبا سلوى) ركنٌ من أركان نهضتنا الأدبية والفنية، هو حجر الزاوية، وهو واحد من رجالاتنا الذين يُحَدّونَ من الجهات الأربع.

ردوا النسَم..

محاضر الأدب الإنجليزي - جامعة عدن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى