مهندس النهضة الحديثة في اليمن في إصدار جديد للدكتور الهمداني

> «الأيام» أديب قاسم:

> ظهر الإصدار الأخير للدكتور أحمد علي الهمداني من خلال اضطلاعه بجمع وإعداد ودراسة أعمال رائد الحركة التنويرية والنهضة الأدبية والفكرية في اليمن (المجاهد محمد علي لقمان المحامي: فتاة الجزيرة - افتتاحيات ومقالات من عام 1940 - 1950) ليملأ بذلك فراع المكتبة الثقافية في اليمن، في الوقت الراهن.. وبعد أن كان الدكتور الهمداني قد أشرف على إعداد وتوظيب أعمال لقمان المؤلفة وقد صدرت تحت عنوان: (محمد علي لقمان رائد حركة التنوير في اليمن) إضافة إلى الأعمال الكاملة الشعرية والمسرحية للشاعر علي محمد لقمان. وكان للمهندس ماهر محمد علي لقمان شرف الاحاطة بنشر هذا التراث النفيس البالغ الأثر والقيمة ليخرج إلى العلن، بعد أن دخل في حيز النفاذ OUT OF PRINT والمصادرة والضياع. ولعله أن يضيء لنا الطريق.

وتجيء أهمية هذه الإصدارات من حيث أنها تكشف لنا كثيراً من الأوراق الضائعة التي تؤرخ لمرحلة دقيقة من مراحل نهضتنا الحديثة التي ازدهت بها عدن منذ مطلع القرن العشرين وأفاءت بها على جزيرة العرب، أكان ذلك على صعيد تنامي الحركة السياسية في الوطن اليمني، وتبلور الاتجاهات الفكرية من خلال النزوع إلى الادب بأشكاله الجديدة: المقالة والقصة والرواية والمسرحية.. ومع إحياء الحركة الشعرية في مسارها المتصل بظهور المدرسة الكلاسيكية الجديدة.. أو كان على صعيد النهوض الاجتماعي مع بدء انطلاق العملية التعليمية في الوطن العربي، وصعود الإنسان اليمني بطبقته الدنيا الفقيرة وطبقته الوسطى لاحتلال المراكز العليا في الاقتصاد والإدارة وتولي شؤون القضاء.. وبناء المؤسسات الهيكلية للنهضة العربية الحديثة في اليمن.

وكان نشوء الصحافة (المحلية) الوطنية من أبرز معالم هذه الحقبة التاريخية وهي تؤسس لقيام تلك النهضة في مسار حركة التنوير التي شهدها الوطن العربي، وقد أسهمت إلى حد كبير في تكوين الرأي العام من خلال قاعدة قرائية واسعة في الوسط الاجتماعي (لا سيما في عدن) كان من شأنها خلق طبقة من المثقفين الذين برزوا في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأدبية. ومن خلالهم تأسست مداميك النهضة في حراكها الوطني.. وحيث كان لأسرة آل لقمان التي بادرت إلى امتلاك أسس الثقافة على أعلى المستويات بدءاً بعميدها الأثر الأكبر في نهضة هذا الشعب.

وإن مما يؤكد هذه الحقيقة، صدور أول صحيفة محلية عربية هي «فتاة الجزيرة» التي كان صدورها في عدن في الأول من يناير عام 1940 بافتتاحياتها ومقالاتها التي كرسها اللقمانيون وغيرهم من أجل إحراز هذا الهدف، يتقدمهم عميد الأسرة، الذي سبقت مؤلفاته في الظهور منذ عشرينات القرن العشرين لنشر الدعوة إلى قيام المجتمع المدني الحديث في إطار مشروعه الثقافي الحضاري لنهوض الشرق العربي الإسلامي (لا سيما في عدن) عن طريق الأخذ بأسباب التقدم في الغرب.

وأما عن افتتاحيات عميد الصحافة العربية في اليمن محمد علي لقمان المحامي ومقالاته في صحيفة «فتاة الجزيرة» وإعادة نشرها في هذا الكتاب الذي قدم له الدكتور الهمداني بدراسة ضافية ألـمّت بمختلف جوانب العرض .. فإنها تكشف عن كل تلك المواقف في مناص الدعوة لقيام النهضة، والتي طالما وقف فيها الدعاة في الشرق.. وفي مقدمتهم كان الداعية السياسي والصحافي الأديب عبدالرحمن الكواكبي (-1849 1902م) صاحب كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) مع بدء حركة التنوير العربية، وقد سرت دعوته بين جميع المثقفين من رجال الفكر والأدب والعلم والدين والصحافة على مستوى الوطن العربي:

«أذكّر حضراتهم على لسان بعض الجرائد العربية بموضوع هو أهم المباحث السياسية، وقلّ من طرق بابه منهم إلى الآن، فأدعوهم إلى ميدان المسابقة في خير خدمة ينيرون بها أفكار أخوانهم الشرقيين وينبهونهم، لا سيما العرب منهم، لما هم فيه غافلون، فيفيدونهم بالبحث والتحليل وضرب الأمثال والتعليل (ما هو داء الشرق وما دواؤه؟) ..».

وكان لهذه الدعوة وغيرها مما دعا إليه الشيخ جمال الدين الأفغاني (-1838 1897م) والشيخ محمد عبده (-1849 1905م) وقاسم أمين (-1865 1908) وشكيب أرسلان (1871 1946-م).. وقبلهم كان بطرس البستاني (1819 1883-م) أثر عميق في نفوس المثقفين العرب، فاستجاب لتلك الدعوة كثير من اساطين عصر النهضة في الشرق العربي والإسلامي.

كانت تلك الافتتاحيات والمقالات كونها حقلا من حقول الريادة في اليمن، تقف على هذا الطريق في زمن صعب، وفي ظل حكومات استبدادية واستعمارية أصعب، كي تطرح تلك الدعوات وتمرر أفكارها ومثُلها وقيمها من خلال منشور وعيها إلى الانسان في شرقنا العربي والإسلامي، لتحقق الخلاص من الاستبداد ومن براثن الاستعمار والاستعباد.. وبنهوض الأمة إلى الأخذ بأسباب العصر عن طريق نشر الوعي صوب التجديد والإصلاح، ولغايةٍ ما هي ما دعا إليه الكواكبي وغيره من الدعاة من قيام تنظيم دولي يشمل العالم الإسلامي، ويقوم على قواعد جمعت بين الأفكار الشرقية والأفكار الغربية.

كان لقمان المحامي (الصحافي والداعية السياسي- الاجتماعي) الإصلاحي، على تماس بل تناص مع طروحات عصر التنوير لقيام النهضة العربية- الإسلامية الحديثة في دعوتها إلى التحرر من كل المعوقات التي حالت دون تقدم العرب والمسلمين إلى ما أحرزه الغرب من نهضة في كافة ميادين الحياة.. وتزامن ذلك مع بدء الانفتاح (جراء البعثات الدراسية) على الثقافة الغربية المعاصرة. ومن هنا كان المجاهد محمد علي لقمان المحامي كغيره من رواد عصر النهضة في الشرق يقف في الاتجاه الليبرالي الديمقراطي، ويشمل حق الإنسان في التعليم.. وحق المرأة في التحرر لتنال كامل حقوقها وخروجها إلى الحياة مع الحرص على سلام النظام الاجتماعي من الاعتبار بالتراث القومي الإسلامي.. وكذلك حق الشعوب إلى السير في ركاب الحرية وذلك من خلال إيمانه بالحياة الدستورية والانتقال إلى الحياة المدنية الحديثة، وبقدَر الشعوب في تقرير مصيرها.

ومن خلال مطالعتنا تلك المقالات التي كرسها الرجل الكبير (روحاً وفكراً) نجد أنه كان يعمل ويدعو من أجل حياة اجتماعية وثقافية مزدهرة.. كان مفهوم الليبرالية الديمقراطية في وعيه أنه نموذج للتنمية البشرية في صعيد إنساني وعلى طريق طويل من التغييرات، أي أن الجانب الاجتماعي هو الهدف الحقيقي للاقتصاد، ومن أجل هذا الهدف كان يعمل على خلق حياة ثقافية، خلافاً لليبراليين الجدد الذين نشهد حركتهم في السوق (في يومنا الراهن) والذين لا تترك أسماؤهم أي شعور ثقافي ولا يهمهم سوى تحقيق الربح وتراكم الثروة والسلطة، لتتحول إلى قبضة حديدية لا ترحم الضعفاء، وتحول المسار الاقتصادي عن هدفه الأصلي: أي تلبية احتياجات الإنسان!

من خلال هذا الاتجاه الذي اختطه محمد علي لقمان المحامي يتضح لنا الهدف، حيث كان يسعى إلى هوية خاصة لعدن، ومن ثم لليمن ولجزيرة العرب حتى المجتمع القومي، إذ كان يراهن على التطلعات الديمقراطية قبل إغراء الاسواق التجارية.. وذلك من خلال منهج خاص في النمو الواعي بحقائق العصر التي نجمت عن التطور التكنولوجي لا سيما منذ القرن التاسع عشر بظهور الفكر الليبرالي في الغرب.. ومن خلال التزامه بعقيدة دينية نزاعة إلى باب الاجتهاد، وفيما هي في حقيقة جوهرها وسطٌ بين الرأسمالية والاشتراكية، بل (الوسط الذهبي) إذ تراعي أهمية وجود الفرد في وسط الجماعة.. فكان من خلال توجهه الليبرالي يركز على الإنسان وحقوقه الفردية والجماعية ويدعو إلى الصيغ الاقتصادية التي تخدم هذا الهدف. وذلك في النهاية هو أن يصل العرب والمسلمون إلى حياة سياسية واقتصادية واجتماعية كريمة.. وبقدر ما كان يدعو أبناء البلد العرب (في عدن) إلى إثراء أنفسهم، كان يدعو إلى إثراء مجتمعهم.. إثراء حضارة!

وهكذا كان مهندس النهضة الحديثة داعية إلى الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي نحو بناء مجتمع إسلامي حقيقي يستطيع أن ينهض كما نهض الغرب، وبهذا يمكن أن يصل إلى الحرية الكاملة بنيل الاستقلال وبناء مجد الأمة على صعيد وحدة الشعور القومي.

كلمة أخيرة

كان الدكتور أحمد علي الهمداني في هذا الجهد من خلال تبني هذا (المشروع الثقافي) الكبير، الذي أوقف عليه طاقته البحثية القرائية باستفراغ الجهد، ما يعيد لآل لقمان، وقفاً على المجاهد الكبير عميد الأسرة، مكانتهم الاعتبارية الحقيقية من خلال دورهم التنويري التاريخي في تأصيل الحركة الوطنية.. وليصبح محمد علي لقمان المحامي في مسار الفكر النهضوي القومي واحداً من أعلامه وأبرز رموزه في هذا العصر. فإن كان لنا من مآخذ على هذه الدراسة التي صدّر بها الدكتور الهمداني تلك المقالات والافتتاحيات، فهي أنه قد عمد من خلال تعدد مصادره في اللغة سيان في الأدب، ومع ما تجمع لديه من تراكم معرفي، إلى الإسهاب في الحديث من خلال وصفه أبعاد تلك الشخصية (القمانية) بتعدد أدوارها وملامحها الإبداعية والفكرية. ولا عيب في ذلك الرصف من تعديد مناقب صانع تلك النهضة، إنما العيب في الغض من كرامة الفضل وأهله، فنحن إنما نرجف لأنفسنا إذ نرجف له وكما قال الشاعر في أشرف الخلق:

وما نزار زائدة فيه **** ولكن تُزاد منه نزار

غير أننا نجد في هذا دوران الجمل الكثيرة حول (الموضوع) الواحد، والذي سبق له (للدكتور) التحدث عنه!.. فحبذا لو أنه وقف على جانب من التركيز والوضو ح مع التعمق في البحث والقصد في اللغة لكان ذلك أرشد في التعبير والموضوعية. دون هذا، نرى أنه قد أوفى الموضوع (إلى حد كبير) في عرض أفكاره، وأبدع أيَّما إبداع في التعبير للكشف عن مضمون تلك الشخصية الفذة، ومن خلال الوقوف على تلك الاوراق المغيبة عن التاريخ اليمني الحديث، وبعد أن نفض عنها غبار الزمن، وأجال النظر في دفائن هذا الإرث الذي ما زال يحيا في المدونات على استحياء ظاهر بما ناله من غمط الدوائر السياسية التي تعاقبت على السلطة فأضاعت علينا فرص النجاة من الأزمات (مثلما ضاعت عدن) وكما كان يخشى مهندس النهضة الحديثة جذع شجرة العائلة اللقمانية المباركة ضياع الاستقلال رغم مشروعه الثقافي الحضاري بما فيه من رئاية Perspective مستقبلية متفائلة على صعيد الفكر الليبرالي الديمقراطي الحديث .. ومع سبقه وسموه الادبي في مسار الحياة الثقافية العربية المعاصرة والحديثة في اليمن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى