فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر

> «الأيام» علي محمد يحيى:

> خصني مشكورا الصديق العزيز الأستاذ الدكتور قاسم عبد عوض المحبشي، رئيس قسم الفلسفة، كلية الآداب بجامعة عدن، بنسخة من أطروحته (فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر.. ارنولد توينبي موضوعا) التي نال عنها درجة الدكتوراه من جامعة بغداد، ولأهميتها فقد حظيت بعناية الهيئة العامة للكتاب بأن تولت نشرتها ضمن سلسلة كتبها المعنية بالرسائل الجامعية، جاءت فيما يقارب الخمسمائة صفحة من القطع الكبير.

وأزعم أن موضوعا كهذا يعنى بفلسفة التاريخ عموما، وفي الفكر الغربي بالخصوص، ليس من السهل تناوله وخوض غماره ما لم يكن لفارسه الثقة بالنفس والمقدرة العلمية والإقدام وسعة الاطلاع والمحاججة بالرأي .. وهذا هو حال الدكتور المحبشي عند إقدامه على تناول موضوع بتشعباته التي لا حصر لها، تحاشاه كما أعلم من خلال متابعاتي المتواضعة أقطاب فلسفة في مختلف عالمنا العربي، فما بالنا إذا زاد صاحب الأطروحة أن جعل من ارنولد توينبي مدخله وركيزته لدراسة هذا الفكر الغربي لفلسفة التاريخ هذه. وحتى الغرب نفسه كما هو الحال العالم العربي لم تستقر طائفة من طوائفهم في قراءة فكر هذا المفكر، بل تعددت سماته عندهم بما يتوافق مع رؤاهم واتجاهاتهم الثقافية المعرفية والايديولوجية والدينية والسياسية. وأحسب أنني منذ البدء في قراءتي لهذا الكتاب قد وجدت ما أبني عليه جسور الثقة بيني وبين مؤلفه.. لأنه قد خلا تماما من الأحكام الذاتية المسبقة خاصة الأيديولوجية منها، وجعل المقارنة والقياس مبنيين على (مفاهيم تاريخية متلبسة ومتغيرة باستمرار)، كما لاحظ أن هذه المفاهيم لم ولن تكون قاعدة توافقية توحد بين الباحثين والدارسين لها، بل هي تعاريف (وكل تعريف هو تعريف تحكمي نابع من رأي المفكر أو الدارس حسب رؤيته للظاهرة المدروسة).

وأما توينبي فهو علم من أعلام علم التاريخ وفلسفته، وفي تقديري من أشهر دارسي الحضارة الغربية، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق، فقد تميز بآرائه القيمة في تفسير أحداث التاريخ، كما هي استنتاجاته وتنبؤاته حولها، وبما اتسمت في معظمها بطابع الجد والعمق، لا سيما حول الحضارة الغربية في نشأتها وازدهارها ومرتكزاتها، وفي فلسفتها ماضيها وحاضرها. وقد ساعدته خبراته الواسعة الاطلاع في الشئون الاجتماعية والحضارية في استنتاج أحكامه خاصة فيما يتعلق بالمسائل الحضارية، وهذا لا يعني الاتفاق معه على كل طروحاته لأنها إنما هي مسائل اجتهادية ولكل مسألة منها عنده مبرراتها في ترجمتها. الأسئلة التي ترد في خلدنا كثيرة.. ما التاريخ وما هي فلسفته؟ وهل تنطوي أحداث هذا التاريخ على معان نستخلصها؟

فإن وُجدت! ما هي تلك المعاني؟ هي أسئلة من كثير منها، أثارها الدكتور المحبشي في مطلع أطروحته.. وللرد عليها قدم لنا من خلالها الكثير من جهوده البحثية موجزا فيها تارة ومتوسعا تارة أخرى عن مفهوم التاريخ في الفلسفات القديمة والحديثة، وفي الديانات.

وما لدى المفكرين والمؤرخين الذين تناولوه بالبحث والدراسة، سواء أكان هذا المفهوم متضمنا من ثنايا تعاليم الدين أو مفاهيم فلسفية عما هو الحال في العصور القديمة، أم صريحا واضحا كما هو الحال في العصور الحديثة، حيث بدأت دراسة التاريخ دراسة جدية.

والموضوع في تقديري هو موضوع حيوي سواء بالنسبة للإنسان العادي أم بالنسبة للمفكر والمؤرخ والدارس من حيث هل هو علم -أي التاريخ- وهل ينتهي إلى هدف نبتغيه؟ هل هو مجرد سرد واقعي للأحداث وتتابعاتها؟ أو يمكن من خلالها التنبؤ بما يخبئه التاريخ في طوايا المستقبل أو يمكن أن يكون دروسا توضح معالم الطريق في غياهب المجهول فما هي إذا العوامل الأساسية التي تؤثر في مجرى التاريخ؟ أهي تفاعلات داخل المجتمع - أي مجتمع ككل - في محيط البيئة والفرد؟ أم عوامل دينية (إلهية) كما يسميها توينبي.. إلى آخر هذه التساؤلات.

ومن البديهي أن تختلف الإجابات عن تلك التساؤلات، فالبعض يرى كما أسلفت أن تتبُّع التاريخ ما هو إلا دراسة للفلسفة مطبّقة على واقع الحياة.

وأن التاريخ هو فلسفة مجسدة.. بل إن تفسير التاريخ يكاد يكون تفسيرا للحياة نفسها وأتصور أن الأستاذ الدكتور المحبشي هو مع هذا الاتجاه الذي هو أقرب إلى الفلسفة والدين منه إلى مفهوم التاريخ كما يراه الفريق الآخر.

وهم جمهرة المؤرخين التقريريين الذين يرون أن التاريخ إنما هو الأحداث بكل تفاصيلها وحقائقها بدون زيادة أو نقصان. غير أن هناك فريقا ثالثا يرى التاريخ على أنه أساطير الشعوب. وربما هناك رؤى وآراء أخرى كثيرة لا نستبعدها، وهذه الاختلافات في الرؤى والآراء بشأن التاريخ إنما هو اختلاف بشأن الحياة نفسها، إلا أن العامة اليوم ترى أنه يمكن أن يستشف من التاريخ ملامح المستقبل من صفحة الماضي.

لا يفوتني هنا أن أسجل بأنه رغم بعض التناقضات التي وقع فيها ارنولد توينبي في بعض أحكامه التي كان يبرهن على قناعته بها حتى ينقضها لاحقا، خاصة بمواقفه الصدامية أمام الايديولوجيا الاشتراكية التي كان يرى فيها دوما عداوتها للانسانية، ومع ذلك يظل توينبي في طليعة مفكري القرن العشرين حتى اليوم كمؤرخ وللكثير من آرائه في تفسير التاريخ التي ظل ينشد فيها استتاب السلام والتقدم في العالم ومناهضته لفكرة تدمير العالم بالقنبلة الذرية حين كان الصراع على أشده بين قطبي السياسة العالمية .. ومواقفه المتفهمة لقضايا العرب مع إسرائيل وقناعته بالحق العربي.

والخاتمة المسك هو أن هذا الكتاب، كتاب فلسفة التاريخ شاهد عصر على المكانة التي وصل إليها مؤلفه، علماً وبصيرة ثاقبة وشفافية وتواضعاً جماً يحتذى به.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى