> «الأيام» فاروق لقمان:

رجال ينقلون المياه بالقرب من الصهاريج في بداية القرن العشرين
ومن هناك تحمله عربات الجمال وتوزعه على البيوت والناس يغتسلون بالماء المالح من الآبار المحلية التي كانت موجودة في أكثر الحارات وأهمها آبار المساجد للوضوء وبئر زعفران مقابل مطعم الطاؤوس وفي حافة حسين وحافة العيدروس وفي سوق الحراج وفي أماكن كثيرة وقد دفنت كلها تقريباً. وأود ان اذكر ان كنداسة وبمبه كلمتان تعدنتا من الإنكليزية «كندنسر» ومعناها جهاز مكثف و«بمبه» معناها مضخة.
ويقول الوالد رحمه الله:
«ومساجد عدن كانت ولا تزال تضارع مساجد زبيد في كثرتها فإن فيها أكثر من سبعين مسجداً وكان أهم السقاة وبائعي الماء والورادين من العدنيين مثل المخوش الذي كانت له محطة في السيلة أمام مركز الشرطة امام بيت إدلجي والحاج غالب الوراد مشهور ببيع الماء البمبه. وكان ورادنا صالح اليافعي من بئر مسجد علي بهائي بسوق الحراج يمون الحارة كلها حيث ولدت في بيت في الشارع الأول من قسم (د) وكان جيراننا حسن محمد وسالم محمد من المقاطرة وعلي عويجز وعلي حومي وقاسم ناجي وأحمد صالح القحم وبيت المطري وعمرو عبداللاه.
وكانت أم المطري أول امرأة أشرفت على جمالها وغنمها في الحافة كأنها أحد الرجال العاملين وكان يصل إلى عدن الشيخ علي عثمان شيخ الخوخة والشيخ علي محسن دوبله شيخ غليفقة والطائف وكنت أكتب لهما رخصاً في طلب بضاعة إلى البحر الأحمر ولم يكن هناك حجر على تصدير البضائع إلى عدن قبل إعلان الحرب العظمى الأولى. عرفت الوكيل أحمد سلطان وله مساعد اسمه حميد يعمل احيانا 24 ساعة دون كلل. وكان يتندر عليه السيد يحيى الذي كان يسكن بجوارنا وأولاده منهم محمد وعبدالله وجعفر وعدة بنات. ومن الدلالين المعروفين في البلد مثل عبدالله عوض أحمد راشد وعبدالله عمار وعلي أحمد الرجعي ومحمد علي سعيد إذ كانت عدن تستورد بضائع من الخليج والصومال البريطاني آنذاك والبحر الأحمر وترسل بضائع كثيرة إليها وإلى شرق إفريقيا وزنجبار، وقد هاجر عدد كبير من العدنيين إلى تلك الربوع ولكنهم ذهبوا إليها تجاراً ودعاة بالدين ولم يذهبوا في القرون الأخيرة غزاة فاتحين غير إلى زنجبار ولكنهم حتى في هذه الجزيرة الخضراء لم يضاعفوا عدد سكانها العرب ولهذا عندما استقلت الآن وجدت نفسها ضعيفة غير قادرة على مقاومة التيار الإفريقي الشيرازي بعد أن تخلى الإنجليز عنها فذهبت بأيدي الإفريقيين.

العربات الرئيسية لنقل المياه في عدن عام 1911م
وكان العرب في رخاء وتجارتهم رابحة ولكنهم كانوا وسطاء بين الموردين من اليمن والحبشة وبين التجار الافرنج مثل بيت تيان وبيت كركنده وبيت بارديه وبيت ليفراتو وبيت ألويس شوايجر النمساوي الذي كان مقرهم في دار النعايم في زعفران.
وكانت هذه البيوت تشتري البن والجلود والمر والصمغ العربي (من الصومال وظفار) والحبق هادي واللبان الذكر واللبان الميطي الذي يستورده العرب ويصدرونه إلى أوروبا وأمريكا ولم يتعلم التجار العرب تصدير هذه البضائع بأنفسهم حتى أفلس أكثرهم وأغلق أبواب عمله. وكان من الدلالين في حافة العيدروس عدد كبير، منهم الحاج محمد موشجي وعلي موشجي وقد أشرت إلى عبدالله بن عبدالله سعد دلال تيان وعمي حسين إبراهيم لقمان دلال بارده ومن البانيان جردر دامودار وسندرجي لالجي وكان لكل بيت تجاري دلال فكان علي محمد قاسم دلال بيت كركنده ومحمد علي سعد دلال ليفراتو ولا يزال إلى اليوم ومحمد عمر جرجره دلال البس. وبدأ يتألق نجم التجار اليمنيين في حافة حسين مثل الحاج أسعد طاهر الذي تزوج عدنية وظل في عدن يساهم في آمال وآلام العدنيين حتى مات وكان شجاعاً كريماً وقليلون هم الذين كانوا يتدخلون في السياسة. وكان أكثر العدنيين يفضلون الحياة الهادئة البعيدة عن الصخب واللغط على الحياة المليئة بالمغامرات والخوف يسود المجتمعات، والحياة المثالية كانت حياة الرجل المحافظ على تقاليد دينه وعبادة ربه دون تدخل فيما لا يعنيه. وكان الرجل يفضل أن يموت على فراشه مغموراً غير مذكور على أن يموت مشهوراً في حالة غير عادية أو في ثورة ويذكره الناس ويبكون عليه بكاءً مراً.

فتيات ينقلن المياه قبل مد أنابيب المياه إلى المدينة
لكن الأدب العربي بدأ يغزو مكاتب عدن فوصلت إليها كتب المنفلوطي وجرجي زيدان والمويلحي وأحمد فارس الشدياق وآل اليازجي، وقرأت كثيراً من هذه الكتب ومنها كل مؤلفات مؤسس دار الهلال جرجي زيدان ورواياته وكانت تأتيني مجلة «الهلال» ومجلة «المقتطف» بالاشتراك».