تعقيب وملاحظات السلطان غالب بن عوض بن صالح القعيطي (آخر سلاطين الدولة القعيطية بحضرموت) على كتاب الباحثة الأمريكيةليندا بوكسبيرجر (على حافة إمبراطورية)

> «الأيام» محمد سالم قطن:

> على حافة الإمبراطورية ..حضرموت: الهجرة والمحيط الهندي ..مؤلفته ليندا بوكسبيرجر ..مطبعة جامعة ولاية نيويورك 2002م ..يشكل هذا الكتاب، إضافة فريدة للدارسات الحضرمية، وهو حصيلة جهد مثابر وبحث علمي متفان يتبين من خلاله الإخلاص الواضح للبحث والفهم والرؤية الثاقبة، كما يعكس رغبة المؤلفة وتعلقها بموضوع بحثها.

مع مقدمة بارعة وخاتمة مثيرة للاهتمام، ينقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء يتضمن كل منها فصلين، وتشهد الخرائط التسع في الكتاب بالمهارة الحاذقة للمؤلفة في فن وعلم رسم الخرائط وكذلك في التصوير الفوتوغرافي.

أمتع هاتيك الخرائط هي تلك التي تظهر سيئون، تريم، شبام، المكلا، الشحر، تماماً مثلما كانت هذه المدن تبدو خلال عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، كذلك الحال بدت الصورة (13) حصن الغويزي، على الغلاف الأمامي.

من ناحية، فإن هذه الخرائط، وعلى الرغم من امتيازها بالروعة إلا أن ذلك لا يعني أنه لم تشبها شائبة، مثلاً الأماكن المسماة: دموم، هينينا، غيل بن يامين يتوجب أن تكتب كما يلي: دمون، هينت، غيل بن يمين. علاوة على ذلك فأنا أشك في أن أهالي دمون يفخرون بتاريخية بلدتهم في امتدادها إلى ما قبل الإسلام، كمقر لسلطة كندة. فهم يرون بلدتهم يجري تناولها تاريخياً وفق أغراض هذه الدراسة كضاحية من ضواحي تريم. حتى إذا افترضنا جدلاً أن هذا الأمر أصبح حقيقة واقعة اليوم نتيجة التوسع العمراني الحضرمي، وهذا الشيء يستحق أن نتذكر من خلاله أن امرأ القيس الأمير الشاعر الذي عاش في القرن السادس قد أشار إلى هذه البلدة في قوله:

كأني لم أسمر بدمون ليلة

ولم أشهد الغارات يوماً بعندل

ومع أن دمون قد اشتهرت قديماً بمعاصر الخمر، فإنها بعد مجيء الإسلام أنجبت الكثير من العلماء والشعراء، أحد هؤلاء هو المعلم عبدالحق الدموني (توفي 1872م) الذي كانت مؤلفاته الشعرية على المدى الواسع مرتعاً رتع فيه العديد من الباحثين والمثقفين المتأخرين (محمد عبدالقادر بامطرف على سبيل المثال) واعتبرت أشعاره مصدراً للمادة التاريخية عن الحروب الكثيرية اليافعية طوال الجزء الأخير من القرن التاسع عشر.

وفي الواقع، فإنه بينما كان الجاحظ (توفي 869م) يقرر بأن الشعر عند العرب يخلد الأحداث، فإن الجمحي (توفي 917م) يؤكد تلك المقولة ايضاً، بأنه حتى في زمن الجاهلية كان الشعر بالنسبة للعرب هو (الديوان) بمعنى السجل لكل ما يعرفونه.

في خريطة الشحر لم أفلح في تحديد الحصنين الكبيرين: دار ناصر وحصن بن عياش، اللذين هما مركزان هامان للأحداث التي جرت إبان الفترة الزمنية التي أرخ لها هذا الكتاب. وفيما يتعلق بخريطة المكلا، فإن لدي ثلاث ملاحظات:

الأولى: الحصن القديم للكسادي، أعيد بناؤه وجرت توسعته من قبل النظام اللاحق (القعيطي) ليخدم كمأوى سكني وموقع إداري، الأمر الذي يجعله دون شك أكبر معلم يمكن تمييزه في هذه المدينة لكنه للأسف غير موجود في الخريطة.

الثانية: لا يوجد في الخريطة المبنى الذي سكنه السلطان القعيطي وولي عهده قبل بناء قصر النعيم. فقصر النعيم استكمل بناؤه في الثلاثينات، وهذا القصر الذي سكنه السلطان القعيطي وولي عهد قبل قصر النعيم يوجد موقعه مقابل الأخير عند سفح الجبال ويتكون من (حصن الشيبة) الأقدم الذي بناه السلطان عوض بن عمر، والباغ الذي بناه السلطان غالب بن عوض عندما عمل مستشاراً لوالده. وقصر السلطان عمر بن عوض الذي تم إعارته فيما بعد ليكون مقرا للمعتمد السياسي البريطاني وكل هذه المباني الثلاثة كانت محتواة ضمن سور واحد يضمها معاً.

الثالثة: يظهر سور المكلا وكأنه يشهد لمرحلة سابقة هي فترة حكم الكسادي. لكن حقيقة فإن (القعيطيين) هم الذين بنوه. صورة فوتوغرافية لهذا السور أخذت من قبل البعثة النمساوية عام 1895م وتم نشرها عام 1914م أما السور الذي بناه (الكساديون) فقد كان موقعه باتجاه الشرق إلى مسافة قريبة جداً من البلدة القديمة (حافة البلاد) وفقاً والرسم الذي أعده بالألوان المائية الكوماندور (روبرت مورسبي) ضمن مجموعة sea straight في متحف فكتوريا & البرت.

وحول الخريطة المتعلقة بالهجرة الحضرمية، ففي الوقت الذي يمكننا أن نبرهن أنه لا يوجد مكان في المحيط الهندي لم يزره المهاجرون الحضارمة، فإن ساحل الكوجرات وخان دش هو المرسى المعروف لهؤلاء القادمين عبر القوارب التقليدية إلى الهند طوال القرن التاسع عشر، ومازالت هذه المنطقة تفتخر بعدد من العائلات المعروفة.

في ذات الوقت يؤسفني أن أرى المؤلفة تكرر نفس الخطأ الذي تكرر مراراً بواسطة الإدارة البريطانية، والذي يصور القعيطيين وكأنهم عشيرة طارئة على حضرموت، فقد جرى اعتبارهم كغيرهم من العشائر اليافعية التي أتت من جبال يافع أوائل القرن الثامن عشر بدعوة لإزاحة ممثلي الإمام عن حضرموت، فهم ينحدرون من قبيلة الموسطة أو ما يسمى (المكتب) واستقروا كغيرهم من العائلات بوادي حضرموت، مبتدئين أولاً بعندل، ثم صارت شبام موطئ سلطتهم الأولى، حيث تمثل هذه المدينة القلعة الوسطى بين القلاع الثلاث التي يحملها علم السلطنة القعيطية.

استعاد القعيطيون مدينة الشحر من الكثيري الذي كان قد أخذها بالقوة قبل ذلك من النقيب على بن بريك (اليافعي مثلهم). هدد الكثيرون كذلك مدينة المكلا، والتي بدورها ألحقت بدولة القعيطي جزئياً في البداية كسداد لقرض على الكسادي، ثم كاملة بعد ذلك عقاباً للكسادي لتحالفه مع الكثيريين الذين كانت خطتهم النهائية محاصرة اليافعيين داخل حضرموت ثم إبادتهم بعد ذلك. وفيما يتعلق بالوجود اليافعي في حضرموت (الذي يرجع تاريخياً إلى عهد الإمبراطورية الحميرية) فاليافعيون هم أبناء حمير. والذي ينبغي الإشارة إليه هو أن المؤلفة ذكرت أن هجرتهم إلى حضرموت من يافع جاءت كنتيجة للجفاف والمجاعة في بلادهم الأصلية، فبلادهم الأصلية غنية بمدرجاتها الزراعية المعروفة على الجبال الخضراء، وهي أكثر خصوبة من حضرموت نفسها. بالأحرى أنهم جاءوا ملبين الدعوة لتحرير المنطقة من الأئمة، ثم خدموا كجنود لدى الحكام، ثم بلغوا من القوة ما أهلهم لأخذ الحكم. القبائل اليافعية تنقسم إلى عشرة مكاتب أو فروع قبلية، خمس منها قاعدتها في يافع العليا وتدعى (بنو مالك) والخمس الأخرى قاعدتها في يافع السفلى وتسمى (بنو قاصد).

هذه الاعتراضات لا تزيد عن كونها ملاحظات لا تنتقص من قيمة هذا الكتاب العلمية، والذي أعتبره شخصياً أهم وأكبر الدراسات التحليلية شمولاً من الناحيتين الاثنوغرافية والتاريخية التي كتبت عن المجتمع الحضرمي في كل اللغات.

أود أن أوجه عناية المؤلفة إلى أهمية تقديم رجل الزراعة والشاعر الحضرمي من القرن الخامس عشر المعروف بـ(سعد السويني) للقراء الغربيين، خاصة وأن كتابها قد حوى في صفحة 154 صورة فوتوغرافية لضريحه فهذا الرجل لم يكن نصيراً للمزارعين فحسب، بل كان أيضاً شاعرا على طريقة (نوسترا داموس) الذي يعتقد أن مقولاته الشعرية تحمل تنبؤات بما يحمله المستقبل.

الفصل الأول من الجزء الأول للكتاب تحت عنوان: (مظاهر الهوية الاجتماعية في حضرموت وخارجها) يعالج بالتفصيل الارض والناس وخلفياتهم الاجتماعية الاقتصادية والتركيب الاجتماعي المهني، ويؤكد على استخدام المصطلحات الحديثة عن التفاوت الطبقي والانسجام والتماثل المهني الاجتماعي وغيرها. وهذه قوالب واصطلاحات عصرية. وصحيح أن المؤلفة قد أوضحت وعي الفئات الاجتماعية بكثافة هذا الموروث الذي يؤثر على مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية، بما فيها التربية والتنشئة والإعداد المهني، وكذلك الوظيفة والزواج (لم يكن مقبولاً حينها من الرجل أن يتزوج امرأة من طبقة أعلى من طبقته، ولا المرأة أن تتزوج رجلاً من طبقة أدنى من طبقتها) لكن المهاجر الحضرمية في خارج حضرموت فتحت لكل الأفراد من مختلف الطبقات دون تمييز، الفرص، ولم تعد هناك حدود بين التقليدي والمهني في التعليم والتدريب.

فمثلاً في الهند، صار لكل الأفراد، وليس فقط افراد الفئة التي يأتي منها العلماء والمثقفون في العادة، القدرة على تأدية مهام العلماء والمثقفين بفضل التعليم كما أن أفرادا آخرين لا ينتمون إلى الفئات التي تحمل السلاح، صاروا يشغلون مواقع ومراكز عسكرية.

الفصل الثاني يتناول الهجرة الحضرمية وتجمعات المهاجرين في الشتات: شرق أفريقيا، البحر الأحمر، الشرق الأقصى، وقد سلطت المؤلفة في هذا الفصل الضوء على مظاهر الصراع وأشكال الانصهار والاندماج ما بين التقاليد المجلوبة من أرض المواطن الاصلي وبين الثقافات المحلية لبلدان المهجر وأيضاً دور مؤثرات الحضارة الحديثة وعوامل التطور، وما أدى إليه ذلك فيما بعد من مطالبات بالإصلاح في أرض الوطن الأصلي حضرموت.

والجزء الثاني من الكتاب يتناول تنظيمات الحياة الحضرمية والريفية مراكز على سيئون وتريم وشبام في حضرموت الداخل. ويناقش أنماط حيازة الأرض، وأساليب تقاسم المحصول الزراعي بعد الحصار، ووسائل الري وحقوق المياه، كما يلامس التعارض الواضح بين مجموعة القواعد والاعراف (غير المكتوبة) وكيف يجري الالتزام الصارم بها وكأنها دستور.. وبين متطلبات التواصل السليم لمجتمع يتسع ديناميكياً. والفصل الثاني من الجزء الثاني للكتاب يسلط الضوء بالأسلوب السابق ذاته على المقاطعات الساحلية (حضرموت الساحل)، والمراكز الزراعية فيها: غيل باوزير، الحامي، وادي حجر، والنشاطات البشرية في الساحل مثل: بناء القوارب، السفر والنقل البحري، اصطياد الأسماك، وتجارة القوافل.

سلطت المؤلفة الضوء على ما عكسه الحضرمي الشهير، أندونيسي المولد، علي أحمد باكثير، من توقعات مستقبلية عن الزراعة في حضرموت ولسبب يتعذر تفسيره لم تشر إلى الإسهامات الهائلة التي قام بها السلطان صالح بن غالب القعيطي لتنمية وتطوير الزراعة بالمنطقة. فالسلطان صالح وبعد توليه الحكم عام 1936م قام بإعلان مشروع طموح لتشجيع الزراعة بكل الوسائل الممكنة بما فيها إدخال نظام تعاوني وتقديم تسهيلات لتدريب المزارعين على استخدام الأجهزة والتقنية الحديثين، كان برنامجه يشمل إقامة بنك تعاوني يقدم القروض الميسرة لشراء البذور والأسمدة (قروض بدون فوائد سوى تكاليف إدارة البنك) ومحاولاته الأخرى في الثلاثينات من القرن العشرين لتسويق السجائر باستخدام التبغ الحمومي المنتج في غيل باوزير (لكن التحليلات أثبتت فيما بعد عدم صلاحية نكهته)، ومحاولاته لتسويق العسل الدوعني إلى ما وراء البحار وهو نفس المشروع الذي ساهم فيه مع السلطان صالح المستشار (هارولد انجرامز) مساهمة معروفة.

أما الجزء الثالث من الكتاب فيناقش العادات والطقوس والتقاليد الاجتماعية السائدة والقائمة على معتقدات دينية، والضغوط المتزايدة التي تتابعت تدعو إلى الإصلاح الديني والاجتماعي والتربوي، ومتطلبات وضع منهج تعليمي يتضمن موضوعات جديدة غير تقليدية. وخصوصاً تعليم البنات الذي جاء تحت تأثير أفكار وخبرات ثقافية حملها المهاجرون عند عودتهم إلى البلاد.

تحليل (بوكسبيرجر) للتقاليد الصوفية المحلية يغطي موضوعات مثل الزيارات لأضرحة الأولياء و(الحج) الموسمي لضريح النبي هود (العهد القديم)، هذه الممارسة تدعمها عناصر مؤيدة للصوفية، بينما يمقتها ناقدوهم من المجددين والموحدين والعصريين.هنا أيضاً، استغربت لعدم الإشارة للدور الهام الذي قام به السلطان صالح بن غالب القعيطي في تطوير التعليم.. ففي أواخر ثلاثينات القرن العشرين (أي بعد سنتين فقط من توليه الحكم) صارت الميزانية السنوية للمدارس الحديثة التي وضعها السلطات صالح تساوي ضعف ميزانية مستعمرة التاج البريطاني في عدن.

كذلك أرغب في الإشارة إلى الدور القيادي في تعليم الفتاة خلال الفترة اللاحقة لـ: فاطمة عبدالله الناخبي رحمها الله.

خاتمة الكتاب (الجزء الرابع) تحت عنوان: (القوة والسياسة والصراع) تناول أحداث ميلاد ونشأة السلطنتين الكثيرية والقعيطية بتمويل من بلدان المهجر في الشتات الحضرمي، وتطورات العلاقة بين السلطنتين من المنافسة والاحتراب إلى مرحلة أشرفتا فيها على الوصول إلى الوحدة والاندماج عام 1918م وما تلا ذلك من تغيير شكل السلطة البريطانية في إدارة المنطقة من السيطرة غير المباشرة إلى الاحتواء الكامل وما أسفر عن ذلك من دق الإسفين بينهما.

كما يناقش الفصل الأخير من الكتاب الضغوط من أجل إصلاح سريع ودور المعارضين لهذا الإصلاح وصلابتهم في مواجهة التغيير، انطلاقاً من مصالحهم الراسخة في إبقاء الأمور على ما هي عليه. ومن الفشل في العثور على مسار طبيعي نحو التقدم ينبع من الداخل، وفي ظل غياب الموارد المالية والبشرية اللازمة لإجراء التطوير والإصلاح، الأمر الذي دفع الحضارم للبحث عن المساعدة والدعم من قوة عالمية تملك حضوراً قوياً في المنطقة، وهي بريطانيا.

ختاماً: أشير إلى خطأين في تفصيل الملحق (8): اسم السلطان الكثيري الأخير كان هو حسين، وليس المحسن.

السلطان عوض بن عمر القعيطي توفي عالم 1909م، وابنه السلطان عمر بن عوض توفي عام 1936م.

وبالنظر إلى وجود عدد كبير من الأسماء العربية والبلدان المذكورة بين ثنايا الكتاب أنصح بأن تحتوي الطبعات القادمة منه على دليل تفصيلي مفهرس.

كتاب ليندا بوكسبيرجر الرائع هذا، هو بلا شك كتاب مرجعي أصيل. سيظل إلى سنوات قادمة دليلاً ومرجعاً مثيراً وغنياً بمادته في المجالات المتنوعة التي تخدم كل مهتم أو مختص بالدراسات الحضرمية.

نشر التعقيب باللغة الإنجليزية في مجلة الجمعية البريطانية اليمنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى