المشاريع الثقافية والعوامل السياسية (2)
> عبده يحيى الدباني:
> على الرغم من بساطة هذين التعريفين ووضوحهما - تعريف السياسة والثقافة - ووضوح العلاقة بينهما فإن ما تقدم يكشف عن العلاقة الجدلية التاريخية الحتمية بين المشاريع الثقافية والعوامل السياسية إن لم نقل بين الثقافة والسياسة بوجه عام، بيد أن هناك بوناً واسعاً بين من يسعى إلى السلطة كغاية بحد ذاتها وبين أصحاب المشاريع الثقافية الذين يرون في السياسة والسلطة وسيلة لنجاح هذه المشاريع وتمكينها وحمايتها، كما أن هناك فرقاً بين سياسة تتبناها الثقافة كوسيلة، وبين سياسة لن تقم على أساس مشروع ثقافي، وإنما تصنع ثقافتها بنفسها حتى تقدم نفسها بشكل أفضل فتصبح الثقافة هنا وسيلة للسياسة وكان ينبغي أن يكون العكس. كما يظهر الفرق جلياً بين ثقافة أصيلة ذات رؤية واسعة شاملة تتخذ من السياسة وسيلة لها وبين ثقافة تنتجها السلطة وترسخها بطريقة إعلامية استهلاكية أو بطريقة أخرى بعيدة الأثر، فمن هنا تحدث الأزمة بين الثقافة الحقيقية والسياسية بما تتبناه من ثقافة سلطوية، بيد أن الأمر الطبيعي أن يكون هناك انسجام وتكامل بين الثقافة والسياسة بحيث تكون الأولى غاية والثانية وسيلة لها مثلما تكون الأولى كلية والثانية جزءاً من هذه الكلية، فإذا عددنا (الإسلام) مثلاً مشروعاً ثقافياً تاريخياً بما ينطوي عليه من مبادئ سماوية واجتهادات بشرية فإن الدولة الإسلامية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كانت صمام أمان هذا المشروع الكبير ووسيلة الناجعة في النجاح الباهر والانتشار الواسع والتمكين الراسخ، لقد حرص الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه - مثلاً- على محاربة المرتدين وإخضاعهم للدولة وتأديتهم للزكاة لما في ذلك من قوة للدولة والدين معاً ولم يقبل منهم مجرد العبادات كالصلاة والصيام فقط، فتوطدت أركان الدولة الإسلامية واتسعت رقعتها جنباً إلى جنب مع شيوع الدين الإسلامي وثقافته وفكرة وأخلاقه في كل أرجاء الدولة الواسعة، لقد كانت السياسة الإسلامية خلال المدة التي ذكرناها آنفاً سبباً في شيوع الثقافة الإسلامية وفي تمكينها وحمايتها، تلك السياسة الإسلامية التي تراعي مصالح الناس الدنيوية والدينية معاً وفق المشروع الثقافي العام الذي هو (الإسلام). وعندما غربت شمس الدولة الإسلامية - مثلاً- في غربها الأندلسي انطفأ نجم الإسلام هناك وأجبر المسلمون على تبديل دينهم أو الرحيل إلى بلاد الإسلام في المشرق والمغرب العربيين وحولت المساجد إلى كنائس بين عشية وضحاها وجرى إحراق المكتبات والمعالم الإسلامية، على أن الإسلام من قبل لم يفعل مثل هذه الأفعال الشنيعة عندما فتح البلاد ولم يفرض نفسه فرضاً على الناس حيث اتخذ سياسة عادلة مع أهل الديانات المختلفة مارسوا في ظلها حريتهم وحقوقهم الدينية والاجتماعية والوطنية والثقافية. بيد أن هناك فرقاً كبيراً بين السياسة الإسلامية كما وصفناها وبين الإسلام السياسي أو تسييس الإسلام كما سنذكر في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.
[email protected]
[email protected]