طال تأخر قطار الفدرالية ولن يستقله أحد

> أبوبكر السقاف:

> نشرت في «الأيام» في ربيع العام 1994 مقالا عن الفدرالية، وبدا لي في ذلك الوقت أنها قد تخرجنا من الأزمة التي كانت على وشك الانفجار، وكان نشر المقال محاولة شبه يائسة إن لم تكن يائسة، لأن كل المؤشرات التي تراكمت منذ يوم الوحدة الأول كانت تؤكد أننا نسير في طريق الحرب. وأذكر أن المقال نشر في «الثوري»، وفي صحيفة «عدن».

نشرت قبل نحو أربع سنوات مقالاً عن الفدرالية في «الأيام»، وقلت إنها قد تكون مخرجا من الأزمة التي استمرت في النضوج دون أن تعبأ بالمآثر والمنجزات التي يتحدث عنها الإعلام الرسمي، وهي دائماً إنجاز في الوهم، يزيد الناس اقتناعا بأن «العقل المستقيل» وحده قادر على اجترار الأوهام.

في الحالين وجه إلى الفكرة سيل من الاتهامات معظمها إن لم يكن كلها يتعلق بالنوايا، فما الفدرالية إلا انفصالية صريحة، وغاب في المرة الثانية صوت حزب الإصلاح الذي كان مدوياً في المرة الأولى.

واليوم تتكاثر المطولات القانونية مثل الفطر بعد يوم مطير، وتخوض في أمور كثيرة، ومنها الفدرالية. إن السمة المشتركة بين المطولات أنها صراحة تضع نفسها في موقع تمثيل الرأي العام، وهي جزء منه، بينما جرت التقاليد في مثل هذه الأحوال أن تنتخب هيئات تمثيلية أو جهات تعمل في مجال البحث يقترح عليها أن تقدم رأياً في حقل من الحقول، وهناك ظرف مشترك بينها أنها استجابة سريعة لأزمة وجود طويلة، اتضحت معالمها منذ ربيع العام 2007 بصعود نجم المقاومة السلمية تحت راية القضية الجنوبية. بألف ولام التعريف. وهي قضية وجود تكوّن البعد الأساسي في أزمة وجود النظام القائم منذ 94/7/7، ويرفض النظام الاعتراف بها، ولذا فإنه لا يتصور أن يجد لها حلا، ويرى في دعوة ما يسمى معارضة الخارج الجهة الجديرة بالمخاطبة، لا الناس الذين ملأوا الأفق السياسي اليومي بضجيج الفعل السياسي الجميل والشجاع الذي يشارك فيه جمهور يريد استعادة ذاته وحلمه وهو غير معترف به.

إن العودة إلى حديث الفدرالية جاء متأخراً تماماً كما تأخر حديث المخلاف الذي ورد في وثيقة العهد، والذي قامت حرب العام 94 لوأده، ولذا استعجل وزير خارجية النظام إلغاءها قبل نهاية الحرب، وجاء «مشروع» بناء دولة الوحدة بعدها، ولا مفارقة في منطق السياسة الارتجالية اليمنية، وهي ملمح راسخ في الذهنيات والكيانات التي لا تحكم بوساطة المؤسسات، فيقرر رأي فرد أو قلة مصير البلاد دون العودة إلى المواطنين، فكان حصاد الحكمة البدوية أن جاءت حرب الوحدة بعدها، وهنا لا مفارقة أيضاً لأن الأساس هو الوحدة بالغلبة حيث يحكم «العقل المستقيل» لا العقلانية السياسية، والغلبة عقيدة سياسية عربية مضمرة في تجارب الوحدة كافة.

هناك ملمح مستمر في السياسة اليمانية منذ حققت الوحدة حتى اليوم هو العجز عن تقديم حلول لمشاكل تتراكم ويزداد تعثر السلطة والمعارضة في ركامها، لأن الحلول التي تطرح -كما حدث منذ وثيقة العهد وقبلها وبعدها- تقوم على سلامة منطقها الداخلي، أي اتساق فقراتها وقضاياها الأساسية ومقدماتها، أي أنها صورية، لا يلتفت واضعوها إلى مدى مطابقتها للواقع، ودرجة تعقيد المشاكل، والمناخ السياسي والنفسي السائد في البلاد، ولذا تمنى بالفشل الذريع مطولات تبدو سليمة، ولكنها في الواقع تمرينات إنشائية مقطوعة الصلة بالواقع والوقائع، مهما حسنت النوايا.

لقد رفضت السلطة غير مرة مبدأ الفدرالية بين الكيانين الجنوبي والشمالي، باعتباره ذريعة للانفصال، أما اليوم وبعد أن تجاوز الفعل السياسي الجنوبي حتى هذه الفدرالية، فإن العودة إليها التفاف على واقع سياسي جديد يملا الأفق السياسي والوعي السياسي، وهما معا قد ودعا وثيقة العهد والحكم المحلي واسع الصلاحيات ضيق الإمكانات وما في حكمه، فهذه كلها لا علاقة لها بواقع اليوم الذي يعلن أنه لا يريد استعادة وحدة لم تكن، أو تقديم حلول ترقيعية لثوب قد أصبح خلقاً رثاً غير صالح للانتفاع به يذكر بقول لفيلسوف المعرة: كثوب اليماني قد تقادم عهده ** فرقعاته أنَّى شئت في العين واليد.

كان ذلك إملاقاً مادياً، ونعاني من إملاق عقلي وروحي في هذا الزمان!

إن القفز فوق رؤوس الناس كما تم في صفقة الوحدة باسم تمثيلهم الغيبي أو الصوفي لا يجب أن يتكرر، وفي هذه الحال سيكون السعيد من اتعظ بنفسه، فلا يحق لأحد باسم طليعية نمائية سواء أكانت اشتراكية أم إسلامية، سياسية أم عروبية وحدوية، أم دفاعاً عن حمى الدولة القبيلة الذي اتسع بعد 94/7/7 ليشبع نهم العصبية الجامحة إلى القضية التي صارت بحجم دولة وشعب، لأن عاقبته ستكون وخيمة.

لم تعد الغرف المغلقة ومقايل الحوار المستحيل والعقيم هي المكان المناسب لتقرير مصير السياسة، فقد أصبح الشارع السياسي بدلالته الحقيقية والمجازية ميدان السياسة ورحابها المفضل، وعدم أخذ هذه الحقيقة السافرة كشمس الضحى في الحسبان يبرهن مرة أخرى أن الأحزاب تفكر في نفسها داخل حدود مناوراتها، لا في الناس ومصالحهم وقوة حضورهم السياسي وتعبيرهم الصريح عن مطالبهم التي ازداد تمسكهم بها بعد نحو عام من الجهر بها في ساحة الحرية في عدن. ودعوا وهم الوصاية وعودوا إلى الشعب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى