> قطر«الأيام الرياضي»عن الجزيرة نت:

وما يجب أن يكون على دراية به القارئ أن الألعاب الأولمبية لم تكن, قبل تبلورها فيما بعد, المهرجانات الوحيدة التي نظمها اليونانيون, فالعديد من الاحتفالات والتجمعات الأخرى كانت تقام منها المهرجانات البوثية, وهي ذكرى قهر الإله أبولون لثعبان بيثون, والمهرجانات الإثيمية تكريماً لإله البحر, والمهرجانات النيمية تكريماً لإبن ملك قتله ثعبان, والمهرجانات الإليوسية نسبة لمدية إليوسيس, لكن أياً من هذه المهرجانات لم يسطع نوره على النور الأولمبي, لكن يمكن القول إنها شكلت تعاقباً أفضى في النهاية لولادة فكرة الألعاب الأولمبية, أي تطور فكري مراحلي عبر الزمن.

وكانت الاحتفالات تقام على جبل أولمبيا المقدس عند قدماء اليونان غرب جزيرة بيلوبونيسس, في ستاد ضخم يتسع لأربعين ألف متفرج, حوله مبان شيدت تباعاً استعملها الرياضيون للتدريب, والحكام مقاراً لهم, وخلالها كان يعم الإخاء اليونانيين فيتوافدون بأعداد كبيرة للمشاركة في الحدث الجلل الذي كان له أبعاد أخرى أبرزها تكريم كبير الآلهة زوس, ولم يكن الحضور يقتصر على أبناء الإغريق المقيمين بل أيضاً المنتشرين في أماكن بعيدة, كما لم تكن النشاطات رياضية فقط بل تتعداها إلى دينية وثقافية وفلسفية, وفي خلالها تعلن الهدنة ويتوقف الاقتتال لفترة تصاعدت تدريجياً مع السنين حتى بلغت من الشهور ثلاثة, منها شهر يسبق بدء الألعاب وذلك إفساحاً في المجال للإعداد لها.

ولم يكن مسموحاً أثناء سير الألعاب أن يحدث أي اقتتال بل كانت الهدنة إلزامية مقدسة وشاملة, وكان يعاقب كل من يحاول عرقلة سير الألعاب أو إعاقة وافدين للمشاركة, ففي ذلك تجاوز إلهي, كما ألغيت الخوات التي كانت دويلات اليونان تفرضها على عابري السبيل في أراضيها, فنتج أمان واستقرار نعمت بهما شعوب الإغريق الأمر الذي سمح لها في تقديم وإبراز حضارة عريقة للعالم تبلورت مع السنين, فكانوا السباقين بأفكار خلاقة, مبدعة سبقت شعوب العالم ومهدت بعدها لألعاب التاريخ الحديث.
شغف اليونانيون بالمهرجان الرياضي ليس وليد الصدفة, فذاك الشعب آمن بأن بناء الكيان والوطن يكون ببناء الجسد وترويضه وتعويده على الكفاح والصبر والجلد والتحمل وإكسابه القوة والصلابة لحماية أرضه, فارتبطت الرياضة بمفهوم التربية لديهم, ودخلت في مبادئ إعداد النشء, ومما زاد من ولعهم تغليفها بغطاء ديني, فكان الرياضي الذي يفوز يرجع نصره لفضل من الإله أو الآلهة, وهذا الأمر كان ذو شأن عظيم, بل لا يوجد ما هو أعظم من حياة القداسة وعبادة الآلهة في معتقداتهم, لذا اختلط الدين بالرياضة, وكان التمازج المقدس الذي أثمر الهدن المقدسة, فما من شيء أسمى من الدين لدى شعوب الإغريق.

أما المشاركون الذين كان يسمح لهم في خوض المسابقات فعليهم أن يتحلوا ببعض الصفات, أبرزها أن يكون الرياضي حراً, أي غير عبد, أمضى عشرة أشهر في التدريب قبل الاشتراك, بالغ السن, يتمتع بسيرة حسنة وسلوك حميد بين أوساط شعبه, وأن يكون عضواً في المجتمع السياسي فذلك يزيد من مكانته, كما يفترض بالمشارك أن يتعهد بعدم خرق الهدنة المقدسة تحت أي سبب كان, لكن وبصورة عامة كان هنالك أحياناً بعض الاستثناءات من ناحية المشاركين تمنح في أطر معينة يؤذن لها من السلطات, وكان يحضر المشارك إلى مكان الألعاب قبل شهر من بدايتها, حيث يخضع لفحوصات تشمل التأكد من جذوره اليونانية, ومن توافر سائر الشروط فيه, وطبعاً لم تكن المرأة مخولة بالاشتراك.

وما زاد الألعاب تميزاً التنظيم العالي والشاق الذي دمغها, فكانت الوفود تأتي بأعداد كبيرة جداً تضم خيرة رجالات الولاية من حكام ورياضيين ومفكرين وفلاسفة وكهنة وساسة ونبلاء وكان لكل وفد ترتيباته الهرمية والتنظيمية, وكان للقضاة المختارين من أهل مدينة إليس (أولمبيا تقع في ولاية إليس) وفقاً لاتفاقية الهدنة بين الدويلات لباسهم الخاص الذي يميزهم, وكان يحرم كل رياضي يغش من المشاركة مدى الحياة إضافة لغرامة مالية كبيرة توظف لبناء تماثيل, وكانت الوفود تنطلق قبل ثلاثة أيام من بدء الألعاب من مدينة إليس, باتجاه أولمبيا ويترأس الموكب الكبير ملك إليس وحكامها.
وتستكمل الحلقات التنظيمية لتشتمل على البرنامج الأولمبي المعد سلفاً والموزع على خمسة أيام, فكان يجري في اليوم الأول الطقوس الدينية المتنوعة والصلوات واستعراض القضاة وتقديم الهدايا للمعبد والقسم الرياضي, وفي اليوم الثاني تبدأ المنافسات منذ الصباح, وتقام مسابقات الملاكمة والجري لمسافات مختلفة, مثل عدو الجمنازيوم مرة أو اثنتين أو أربع... (طول الجمنازيوم 192م) والمصارعة, وفي اليوم الثالث سباقات العربات والخيول ومسابقة البنتاتلون, وتشمل رمي الرمح ورمي القرص والوثب والجري والمصارعة, أما اليوم الرابع فتقام فيه احتفالات دينية لأنه يتزامن مع اكتمال القمر وتقام مسابقات عدو لمسافات متنوعة وملاكمة واختبارات للقوة عبارة عن نزالات شرسة للغاية دون السماح بالقتل, وفي اليوم الأخير ابتهالات دينية وتقديم قرابين للإله زوس.

ما يستوقف في هذا الجزء من حضارة اليونان الغنية والدسمة, أفق الرؤية النير والواضح والعميق لدى هذا الشعب, فعلى الرغم من الحروب الدائمة والكبيرة وجدت اسبرطا وأثينا وطيبة وغيرها من الولايات ما يسمون به عن القتال, وإن كان بإطار وثني آنذاك, لكن خلاصات تجارب اليونان, هي قيم حية لكل زمن, مثل الشرف والنزاهة واحترام القوانين والنبل والولاء والتربية الجسدية الرياضية وغيرها, كلها أمور ننادي بها دوماً, وقد نادوا بها منذ مئات الأعوام, وخير دليل على هذا الكلام أن تلك الألعاب شكلت الأرضية لأفكار كوبرتان بعد أكثر من ألف وخمسمائة عام على توقفها.