الشاعر نصر غازي والإبحار بحثا عن مرسى

> «الأيام» خالد قائد صالح:

> نصر غازي، شاعر جمع بين رقة الشخصية ورقة الشعر، ويقترن عنده الصدق بالرقة، وبهما تكتمل ملامح شخصيته المحبوبة، التي لم يطلها التغيير قياسا بأول يوم تعرفت عليه فيه، وكما هو مقل في حديثه، مقل في شعره، ومن شعره القليل الذي بين يدي أحاول أن أبين بعض ملامح موهبته التي ألمحت إليها من أبيات قصائده المختارة، وقبل الولوج إليها أحب أن أشير إلى أن الشاعر نصر غازي، سليل قبيلة المراقشة، ساكنة الجبل، المورثة لصلابته وخشونته وصبره، من أرض الكود الزراعية حضن ميلاده، ومرتع صباه، وهو ساكن عدن وأحد النماذج المكونة لنسيجها الاجتماعي المعبر عن الرقي والمسالمة والتحضر، وأخيرا هو خلاصة هذا التنوع البيئي والسكاني (الديمغرافي)، فخشونة وصلابة جبال المراقشة أوهبته الصدق والقدرة على الدفاع عنه، وجمال أرض الكود أورثته قلبا ناصع البياض كقطنها، ورقة كرقة زهورها وأوراق أشجارها، وطيبة كطينة فلاحها الذي يبذل العرق بكل تفانٍ، وكرما ككرمها حين تهب فلاحها محصولا وفيرا لايشعره إلا بالرضى والقناعة، أما عدن فقد جعلته يعبر عن هذه الصفات من خلال علاقاته الاجتماعية الناتجة عن اندماجه في نسيجها الاجتماعي المتنوع، وهو بهذه الصفات التي تقف الرقة على رأسها، تتحدد رؤيته للجمال الذي لايكتمل عنده، ويعبر عنه هذا البيت الأخير من قصيدة (نسيان) مخاطبا محبوبته:

غشيم من شافك جميل أو فتان

جمال بلا رقة تمثال للأبدان

فالجميل دون أن يكون رقيقا ليس إلا تمثالا لا روح فيه. والبحث عن الجمال المقترن بالرقة جعل شاعرنا في سفر دائم بل والعيش قربهما وحب موطنهما، والتعبير عما ذكرنا، فنجده في قصيدة (حب للشيخ عثمان) يصف جمال محبوبته ورقتها في المقطعين الأول والثاني.

وفي المقطع الثالث، بحثنا عن تجدد اللقاء وإبداء الألم من محبوبته جراء البعاد وما تسبب به للشاعر، ونجده يؤكد حبه لهذا المحبوب ولموطنه مدينة الشيخ عثمان التي كان هذا الحب هو دافعه الرئيسي لحبها:

سلم بكفه عليا

سلام ظامي وعطشان

لما عرفني تألم

على بعاده وما كان

بالسلك تجدد لقانا

الرقم سبعة واثنان

حبيتها حب صادق

وحب للشيخ عثمان

ولأن البحث عن الجمال والرقة سمة الشاعر، يظل سفره المستمر، بحثا عنهما كما في قصيدة (مسافر)، وكأنه يقول لنا كما قال أحد الشعراء قبله: حيث ما المحبوب ساكن دوب يحلا لي السكون.

ويظل يبحث عن مرسى يصادف فيه الفرح ولايخاصمه.

إن الرقة والجمال والحب والفرح هي المفردات التي يتحدد بها موطن الشاعر، وهي رفيقاته في حله وترحاله:

مسافر دوب في رحلات

متى مرسى يرسيني

يخاصمني الفرح مرات

ولا فكر يواسيني

أفتش دفتري صفحات

وشوقي نار تصليني

وبهذا العجُز الأخير من البيت الأخير يوضح لنا الشاعر فلسفته ومنطقه في اختيار سكناه، وعناوينه المعروفة هي الأشواق للمحبوب التي تجعله يتنقل من مكان إلى آخر ليظل قربه، فمن المدينة إلى الريف ومن الريف إلى الجبل، ويبدو أنه وجد مرساه في الجبل الذي فيه دواء الروح والبدن، مثلما أوضح لنا في قصيدة (باحل لي في الجبل) التي مطلعها:

مابا حياة المدينة باحل لي في الجبل.

ولعلنا قد وضعنا أيدينا على السبب الذي جعله يختار الجبل مسكنا من خلال السطور السابقة.

وما من سر لتخليه عن حياة المدينة المرفهة إلا ما ذكرناه حنينا لموطن الأجداد، ولا نفورا من المدينة لسبب طارد، بل تعبيرا عن الرغبة في الحياة قرب الجمال الأخاذ لغزلان اكتمل حسنها وطبيعة شافية للعلل، ورغبة في المتعة التي تصبو إليها روحه حتى يحين أجلها:

مابا حياة المدينة

باحل لي في الجبل

غزلان حولي حسينة

والحسن فيها اكتمل

محلا جمال الطبيعة

فيها شفا للعلل

بامتع الروح فيها

حتى يحين الأجل.

فجميل التسبيل هاش عقله وزاح الخجل ومكنه من رشف أحلى المباسم ومن تذوق شهد القبل، وعند الشاعر شهد قبل البوادي نوع مختلف، عسل له حلاوة مميزة، وإن ألمح إليها ولم يصرح أو يوضح في بيته الشعري، وكأني به يخص البوادي وحدها بإنتاج أجمل أنواع العسل، وهو يؤكد في قصيدته أيضا حقيقة دينية وعلمية جاءت بكلمات ربانية قرآنية لا خلاف عليها.

ونجده في تسلسل أبيات قصيدته يجعل رشف المباسم الفعل سابقة للمفعول به، وهو المحبوب زين السبل، الذي هاش عقله وأزاح عنه خجله، ويبدو أن غرض الشاعر من هذا التقديم هو تشويق القارئ والمستمع لهذا النص إلى معرفة هذا المحبوب الذي فعل بالشاعر ما فعل:

رشفت أحلى المباسم

وذقت شهد القبل

زين السبل هاش عقلي

وزاح عني الخجل.

وإن كان لي ملاحظة هي عن تكرار مفردتي الشهد والعسل اللتين تحملان نفس المعنى في أكثر من بيت، بينما كان يكفيه بيت واحد لذكرهما معا، وكنت أفضل أن يذكر مفردة واحدة كالشهد أو العسل. وفي هذين البيتين:

وذقت شهد البوادي

محلاه طعم العسل

يشفيك من كل علة

ذا قول عز وجل.

يجعلني الشاعر أتساءل عن الفرق بين الجبال والبوادي، وهل البادية بحسب مفهومي هي المراعي السهلية الخصبة، وأن الشاعر جعل السهل والجبل يحملان بمفهومه معنى واحدا، و(المقصود به البداوة) أما البيتان الآتيان:

ياراعي البوش أورع

شع كلنا بانصل

وقبل وقت المغيبة

نروي العطش بالقبل.

يخاطب الشاعر راعي البوش، وهو المحبوب، زين السبل، ويطالبه بالتريث، والانتظار وعدم العجلة، فهو يضمن له العودة إلى داره قبل مغيب الشمس، وخلال هذا الوقت المتبقي يطلب منه يروي له عطشه بمزيد من القبل التي حثت على تذوقه لها في الأبيات السابقة.

إلا أنها كما يبدو لم ترو عطشه، وهل يروي الحبيب المتعطش من لثم ثغر المحبوب، خصوصا أنه لايلتقيه إلا خلسة، ولزمن يسير.

وفي البيتين الأخيرين يحدثنا الشاعر عن أفضليات الريف، حين قال:

في الريف من بات ليلة

الهم عنه رحل

يطوف كل المفاتن

يفرد رحاله يحل.

فمفاتن الريف جاذبة للشاعر، بل محفزة له على أن يروج لها لجذب الآخرين، ولو لليلة واحدة، والنتيجة مجربة ومضمونة، فليس للزائر المجرب بدا من أن يفرد رحاله ويحل، وهكذا يستقر بالشاعر الحال في الجبل، إلا أنني لا أضمن بقاءه.

فلربما يضيق به الجبل وتبرز خشونته، وهي صفته الأصلية، بدلا من الرقة التي أبداها، ونجده يبحث من جديد عن مرسى آخر، وهذا ما أؤكده طالما بقيت موهبة بن غازي الشعرية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى