«الأيام» تفتح ملف تدمير المباني والأماكن الأثرية في عدن .. هل تتحول عدن إلى مدينة تبحث عن هوية تاريخية؟ .. (2-2)

> «الأيام» فتحي بن لزرق:

>
صورة توضح خلع سقف المجلس التشريعي
صورة توضح خلع سقف المجلس التشريعي
مثلما وعدناكم ها نحن نعود حاملين أسطر وحروف كلمات الحلقة الثانية من تحقيقنا هذا، الذي نتمنى فيه أن ننقل شيئا مما يحدث على أرض الواقع وعلى أرض هذه المدينة التي يستباح كل شيء فيها ولا منقذ ولاملجأ مما تعيشه إلا اللجوء إلى الله وإلى أشياء أخرى نتمنى أن نراها واقعاً معاشاً في القريب العاجل. إليكم الحلقة الثانية وفيها شيء من الهم والوجع المستبد الذي لاينتهي وسنظل أوفياء على العهد أن نكتب عن ألم هذه المدينة وأن نذكر الناس بشيء من حقوقها التي تنهب هنا وهناك ولن يردنا شيء.

يحكى أن ...

يعترف الكل أن لمدينة عدن خصوصية تاريخية لايمكن أن يجادل عليها أحد، فعدن مدينة الثقافة والتحضر والجمال والطيبة، والأجمل من كل ذلك أن عدن أول مدن الجزيرة العربية التي اهتمت بالتشريع والمجالس النيابية ووجدت فيها نواة الحكومات المحلية التي نشاهدها اليوم هنا وهناك في عدد من الدول المجاورة ،،يعترف الكل لنا في عدن أننا كنا السباقين لثقافة الدولة والقانون الذي يتشدق به الكثيرون اليوم، وهم أبعد الناس عن تعليمنا احترام القانون بينما كان الآخرون يعيشون زمن الجاهلية الأولى، ومضت عدن طوال السنوات تشكل ملامح الدولة المدنية المتحضرة التي لايعلو فيها صوت على صوت القانون، ولكن اليوم حال عدن لايسر، فلا يمكن الاستدلال بوقائع اليوم أنه كان لهذه المدينة كل هذا التاريخ العريق من المدنية والرقي، عدن اليوم مدينة قانون الثيران الشهير وليتها مشهورة بمصارعة الثيران، ولكنها مشهورة اليوم بذبح الثيران لأجل قانون اليوم، ذهبت إلى مبنى المجلس التشريعي الكائن بالقرب من مبنى البنك الأهلي بمديرية صيرة وهناك رحلت إلى عالم آخر و أخذت جولة في زمن نتمنى أن يعود قريباً وأن تشع شمسه على أرجاء الوطن. يظل المجلس التشريعي شاهداً على تاريخ عدن في مجال السلطة التشريعية والتنفيذية.. شواهد التاريخ تقول إن إنشاء هذا المبنى يعود إلى العام 1854 وأنشئ حينها ليكون كنيسة للطائفة الإنجليكانية واستمر كذلك حتى بنيت كنيسة البادري، حيث قامت فيما بعد السلطات البريطانية بشراء المبنى عام 1947 وتم تحويله ليكون مقرا للمجلس التشريعي الذي أنشئ حينها ، لكن المبنى تعرض للإحراق بعد زحف الجماهير عليه عام 1958 في تظاهرة مناداة الأحزاب والقوى السياسية بمقاطعة الانتخابات الدائرة آنذاك. مبنى المجلس التشريعي يحكي تاريخ العملية التشريعية في هذه المدينة، لكن اليوم يعيش آخر لحظات وجوده.

مسجد الهتاري آخر المساجد التاريخية في عدن
مسجد الهتاري آخر المساجد التاريخية في عدن
أوقفوا هذا العبث

ذهبت إلى هناك لكي أقف على ما تبقى من هذا التاريخ العريق وخيل لي أنني أشاهد ممثلي المجلس التشريعي لولاية عدن التي انضوت فيما بعد في اتحاد الجنوب العربي، وهو الاسم الذي كانت يعرف به الجنوب قبل أن يتم تحويل الاسم فيما بعد إلى جمهورية اليمن الجنوبية، وخيل لي نواب الشعب يستعرضون عددا من القضايا ذات الصلة بحال الشعب في عدن آنذاك، ولكن شيئا من هذا لم يعد له وجود، فالمكان ساحة خراب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وساحة محطمة تتحطم لها القلوب، أصاب المكان منذ سنوات خلت حالة من الإهمال والتجاهل المتعمد من قبل الحكومة وأصبح المكان خاليا إلا من المشردين الذين ينامون في أروقته والعابثين الذين يجولون فيه دون رقيب ولا حسيب وترك للزمن الذي لايرحم، وكأنه مبنى لاقيمة له حتى تحول كل شيء فيه إلى خراب، وبعد سنوات من التجاهل الرسمي أصيبت الحكومة بالخجل وسارعت مفجوعة لكي تنقذ المكان وليتها لم تفعل فشر البلية ما يضحك، اليوم تجرى عمليات ترميم لهذا المبنى، ولكن للأسف الشديد أنها عملية ترميم تسيء إلى المكان أكثر مما يمكن لها أن تفيده، فلايعقل ياسادة أن يتم استقدام عمال بناء من أطراف أحد الشوارع لكي يقوموا بعملية صيانة لمبنى عمره مئات السنين، عقلاً ومنطقاً هذا لايعقل ولا يجوز ولم يحدث قط في أي مكان في العالم، ثم إن الأعمال التي تقام هذه اللحظة وأثناء زيارتي للمكان لم ألاحظ وجود أي مشرف من الجهات المتخصصة على سير العمل، إذاً فالعملية عبثية ومؤسفة ومخيفة ويجب أن تتوقف قبل أن يأتي هؤلاء على ماتبقى من أثر لهذا المجلس.

ماشاهدته هناك يثير الكثير من مشاعر الحنق والغضب لسير عملية الترميم هذه، فبأي حق تم اقتلاع سقف المجلس؟؟ دون محاولة ترميمه، وبأي حق يتم القضاء على الملامح الحقيقية لجدران المجلس الداخلية، حيث يجري تلبيس الجدران بمادة الأسمنت وهو مايعني القضاء على الشكل الحقيقي والتاريخي للمجلس من الداخل، بربكم ما الفائدة حينما يصبح شكل المجلس الداخلي يشبه شكل أحد البيوت العادية أو البقالات ، أي عاقل سيقف على هذا الأمر لن يرضى به ولن يرضى بعملية الترميم هذه، فلوجه الله أوقفوا هذا العبث قبل أن ينتهي، ورغم أنني أقولها هنا وأنا موقن أن أحدا ما لن يلتفت إلى الأمر وسيمر الأمر مرور الكرام، وسنمر أمام المجلس بعد أشهر لنجد مبنى آخر لايمت للمجلس التشريعي ولا لتاريخ عدن بصلة .

المجلس التشريعي من الداخل
المجلس التشريعي من الداخل
منارة عدن.. السقوط الوشيك

الزائر لمدينة عدن يجب أن يتوقف عند أبرز معالم هذه المدينة ألا وهي منارة عدن، المنارة التي اشتهرت بها عدن أو أن المنارة اشتهرت بعدن أو إن كليهما اشتهر بالآخر، منارة عدن التي تحدثت عنها الكثير من المصادر التاريخية والتي يقدر عمرها بما يقارب الألف عام، ولكن هذه المصادر حارت أمامها فوصفتها بعض المصادر بأنها بقايا مئذنة شيدت لأحد المساجد المندثرة في المكان، بينما يصفها آخرون بأنها ليست مئذنة مسجد وإنما فنار بحري أنشئ لإرشاد السفن في عرض البحر.. تتعد الروايات، لكنها تتفق أن هذه المنارة أثر تاريخي يجب ألا يفرط فيه.

عاصرت المنارة كل شيء في هذه المدينة حضر الإنجليز وغادروا، ونهض الجنوب بثورته المجيدة 14 أكتوبر وتوالت الأنظمة دون أن تمس هذه المئذنة بأي ضرر، واليوم مازالت المئذنة صامدة رغم كل مايحيط بها، قبل سنوات من اليوم امتدت أيادي العبث لكي تحيل مسجد أبان التاريخي إلى ركام لتشيد على أطلاله مسجدا لايمت بصلة إلى تاريخ مسجد لايقدر بثمن، والسبب في كل هذا توجهات غريبة يراد منها تغيير خارطة معالم المدينة بدعوى التجديد والتحديث وتقديم الأفضل، ورغم أن هذا الأفضل لم ولن يكون بحجم ما نفقده من قيمة تاريخية وجمالية لما يقومون بتدميره، واليوم يشاع أن هناك نية لتدمير مبنى بريد عدن الذي يقع على بعد أمتار من المئذنة والذي إن صح الأمر فإنه كارثة بكل المقاييس، وذلك لسبب بسيط وهو أن أي أعمال إنشائية تقام بالقرب من أي مكان أثري تتسبب في الغالب بسقوطه واندثاره وهو ماقد يحدث مع هذه المنارة ، لا نبالغ ولا نتحدث عن شيء وهمي، ولكنها الحقيقة ونتحدث هنا على ألا نتحدث بعد خراب مالطا، نتمنى فيما نتمنى ألا يكون الخبر صحيحاً، لأننا نرفض مثل هذا العمل جملة وتفصيلاً، ولكن إن صح فإنه مشكلة كبرى يمكن لها أن تتسبب في تدمير معلم تاريخي مهم لهذه المدينة، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هل يمكن أن يحدث ما نتخيله مستقبلاً، وإذا حدث هل يحق لنا حينها أن نقول إنهم يريدون طمس معالم هذه المدينة؟؟

أعمال تدميرية

سيظل العمل التدميري الذي طال مسجد أبان التاريخي وصمة عار تطارد كل من قام بهذا العمل بحجة فعل الخير، شاهدنا الكثير من الأعمال التي طالت الكثير من الأماكن التاريخية أوائل التسعينات وظلت مستمرة إلى يومنا هذا ويوما بعد يوم كنا نفتقد أحد الأماكن التاريخية وخصوصاً المساجد، لتتحول المساجد العامرة بعبق التاريخ وحب الله وأوليائه الصالحين إلى أماكن صماء يكسوها الأسمنت الذي يبدو جافاً خالياً من كل المشاعر الإيمانية حتى صار الأمر وكأن هذه المدينة مستحدثة، يراها البعض أنها أعمال خير بينما هي في الحقيقة وبغض النظر عن نيات القائمين عليها أعمال تستهدف التاريخ الديني للمدينة، مثلما سقط مسجد أبان ولم يتبق منه إلا صور تذكارية نجدها هنا وهناك وحينما نتساءل أين هذا الأثر الجميل؟ يقال لنا بحسرة وألم لقد كان هنا وحينها ننظر إلى السماء فلا نجد إلا مسجدا مستحدثا عمره سنوات ليس إلا.

من المنازل التاريخية في عدن
من المنازل التاريخية في عدن
ألم شديد ووجع أشد لهذه الحال ولهذا التدمير وكأن الأرض قلَّت لكي يتم تهديم هذه المساجد، اليوم وبعد سنوات من مسلسل التدمير هذا اختفت جل المساجد الأثرية في مدينة عدن ولم يتبق منها إلا مساجد على عدد أصابع اليد الواحدة أبرزها مسجد الهتاري الواقع بمديرية التواهي الذي حينما زرته أحسست أنني أدخل مدينة لأول مرة، وفي زمن ليس هو زمن اليوم، بقايا ذكرى من زمن جميل ليته يعود، أقول هذا وأنا أعلم أنه قد لايعود مسجد الهتاري آخر المساجد الجميلة في هذه المدينة، التي تشع بعبق تاريخي إيماني زاهد، ولكن المسجد اليوم مهدد بالهدم بدعوى التجديد والاستحداث. أبلغت قبل أسابيع من اليوم أن هنالك محاولات حثيثة تجري هنا وهناك لهدم المسجد وللحقيقة لا أدري من المستفيد من مثل هكذا أعمال.. ما الفائدة من القيام بهدم المساجد الأثرية بينما يمكن لمن يريد أن يفعل الخير أن يقوم ببناء مسجد آخر في أماكن أخرى، وما أكثرها.. لا أدري هل سأعود إلى أحرفي هذه بعد شهور من اليوم أو سنوات لكي أتذكر وأقول كتبتها حينما كان مسجد الهتاري مازال هنا ترى هل سيرحل المسجد إلى غياهب النسيان ولن نجد منه إلا بضع صور تحكي تاريخا قديما تسارع الكثيرون إلى طمسه؟؟ ترى هل سيلحق هذا المسجد بأسلافه..سؤال ستجيب عنه الأيام.

قبل الوداع

قد يرى البعض في كلماتي هذه شيئا من العبث الذي لاطائل منه، وقد يرى البعض فيما أخطه شيئا من الوهم الكبير الذي أصبح يستحوذ على مناح كثيرة من حياتنا، ولكن يشهد الله أنها حقيقة واقعنا ، عوامل الزمن لم تقف عند المواقع العامة وإنما امتدت إلى عدد من المساكن الأثرية في محافظة عدن التي لاتزال مأهولة بالسكان، ولكن هذه العوامل طالت الكثير من الأحياء في مدينة عدن التي هي أماكن أثرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، قبل سنوات شاهدنا حملة قامت بها الحكومة اليمنية لصيانة عدد من البيوت الأثرية في صنعاء القديمة، وكذا في مدينة زبيد وغيرها، وهنا وبحكم أننا من هذا الوطن فإنه يحق لنا المطالبة بصيانة وترميم الكثير من هذه البيوت، هنالك الكثير من البيوت عمرها مئات السنين، لكنها تهوي هذه الأيام وتندثر وهي في طريقها إلى الضياع، ألا يحق لنا أن نطالب بترميم هذه البيوت طالما وأنها تعبر عن الوجه التاريخي والمعماري لهذه المدينة أم أنه كتب على هذه المدينة أن تعمر واجهة تاريخها بزخارف قادمة من خارجها..نداء استغاثة يوجه إلى جهات الاختصاص وإلى الأهالي للمحافظة على ما تبقى من تاريخ هذه المدينة، لوجه الله فلنحافظ على تاريخ هذه المدينة من الاندثار وكي لايأتي يوم لانفرق فيه بين عدن وصنعاء!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى