الحب أعاده إلى عدن بعد 53 عاما

> «الأيام» فردوس العلمي:

>
ديمتري مع مرافقه م.صالح مشهور
ديمتري مع مرافقه م.صالح مشهور
عاد إليها والشوق يملؤه، لم لا وقد كانت حبه الأول، غادرها مرغما بعد عامين من مشاعر جميلة، فعاد إليها يافعا، وأبت الظروف إلا أن تفرقهما مرة أخرى.

في 24 /9/ 1930 يوم زرع الحب في قلب ديمتري تيماتيوس اليوناني الأصلي المولود في مدينة عدن، وكان هذا اليوم موعدا لحب أزلي، وبداية رحلة حب لمعشوقته، ولكن فرقهما القدر، وغاب عنها 53 عاما، واليوم عاد إليها واحتضنته بقلبها وعينيها، فلم يتمالك نفسه وهو يتحدث عنها، فانهمرت دموعه، فسكت ثم تحدث بحشرجة صوت ممزوجة بدمع، وهو يقولها بفخر وباعتزاز: تمنيت أن أعود إليها قبل أن يسترجع الله أمانته، ورجوعي لها كان حلما، وكان بمثابة المستحيل.

ولكن نقول إرادة الله والحب الصادق يقهر المستحيل فهو يعود لمن أحب، ولم يتمالك نفسه من البكاء وهو يحكي قصة حب دامت 78 عاما.

في السطور القادمة يحكي ديمتري حكاية عشقه وحبه الكبير، ويعرفنا بمحبوبته التي تمنى أن يعود إليها فحقق الله أمنيته ليعود إليها.

اسمي ديمتري تيماتيوس من مواليد عدن في 24 سبتمبر عام 1930، وهذا مسجل في جواز سفري. عندما وصلت إلى عدن أحسست بأنني تنفست وارتحت كثيرا، فأنا أحب هذه المدينة التي جاء إليها والدي وعمي في عام 1907، وعاشا فيها حتى رحل والدي في عام 1953، وعندما صار عمري عامين رحلت إلى اليونان لكي أترعرع وأتعلم وأنهي دراستي في بلدي، ولكون أمي كانت تعاني صعوبة في إرضاعي أرضعتني امرأة عدنية، ولكن لأني كنت صغيرا لا أذكر الكثير عنها، ولكن كانوا ينادونها آية.

وعندما بلغت 21 من العمر رجعت إلى عدن في 2 يناير 1951، وبقيت فيها حتى غادرتها في مارس1955، وبقيت فيها أربع سنوات وشهرين، بعدها غادرت إلى إثيوبيا، وبقيت هناك عشرين عاما للعمل، وكل أولادي من مواليد إثيوبيا.

يضيف ديماتيوس: لدي أربعة أولاد، ابنان وبنتان، الكبير مزارع في اليونان والأصغر يعمل في مجال الحاسوب في الجانب المالي، وحاليا انتقل إلى الإمارات العربية المتحدة ليعمل هناك في مجال تخصصه، وابنتاي إحداهما ربة بيت والثانية أستاذة في الجامعة، وحاليا تعمل في تأليف الكتب، وبعد تغير الحال في إثيوبيا والمشاكل التي حصلت هناك ذهبت للعمل في نيجيريا، وبقيت عشرين عاما أخرى.

بعد أن وصلت إلى سن التقاعد رجعت إلى بلدي اليونان، وبقيت هناك، وكانت أمنية حياتي أن أعود إلى عدن بعد هذا العمر الطويل، وكان هذا بمثابة حلم مستحيل، شعرت بحنين كبير لهذه المدينة التي ولدت فيها، فهي مسقط رأسي، وتمنيت أن أزورها قبل أن أغادر هذه الحياة.

توقف لحظة وهو يخفي عنا وجهه، لحظة صمت مرت ليمسح دمعة أبت إلا أن تفر من عينيه وهو يتحدث عن مدينة عدن، فنزلت الدمعة محملة بالشوق لعدن، تلك المدينة التي أحبها ومايزال.

ويقول: أنا أحب عدن، ومش مصدق إنني هنا في عدن. وبلكنة عربية محببة يقول: أنا فير مبسوط، فالتواهي مسقط رأسي.

يواصل ديماتيوس سرد ذكرياته: عملت المستحيل لكي أتمكن من زيارة مدينة عدن، خاصة التواهي، وكان القنصل الفخري لليمن في أثينا الأخ رشاد مبجر، فقدم لي الكثير من المعلومات حول مدينة عدن، ومدني بالنشرات التعريفية بهذه المدينة العريقة، وعرفني بأناس من عدن، وعمل على تسهيل عودتي إليها، منهم م.صالح مشهور الذي كلف بمرافقتي.

ويقول: أحمل الكثير من الذكريات لهذه المدينة التي غرست عشقها في روحي، فلم أحب مدينة كما أحببت عدن، واليوم عدنا إليها. تغيرت كثيرا فالمنازل كانت قليلة، وأغلبها منازل أرضية.

ديمتري مايزال يتذكر محلات كانت لها شهرتها في ذاك الزمان منها (سندوسك، لوكتومس، كوري براذرس، كلو بلبيس، بلوبي، بركادس والخياط الشهير بركدلي).

كما أتذكر فندق كرسنت هوتيل (الهلال) وفندق الروك (الصخرة) كان مايزال قيد الإنشاء حين غادرت عدن،

وكانت هناك طريق ضيقة بين خورمكسر والشيخ عثمان، وكان في وسطها المملاح، واليوم أرى ارتباط الشيخ عثمان بمدينة المنصورة ووجود الكثير من المنازل العالية.

ويضيف: مازلت أحتفظ ببطاقتي (إثبات الشخصية) وشهادة ميلادي ورخصة القيادة المسجلة بعام 1955، وبعض الذكريات البسيطة، فكثير مما أحتفظ به من عدن ضاع بسبب الزلزال الذي ضرب المدينة التي كنت أعيش فيها. (يتبسم) أعود إلى عدن بعد 53 عاما.

يصف ديمتري منزله: كان اسم شارعنا (الهلال) وكان مسكني مكونا من دور أرضي فيه المحلات التجارية الخاصة بوالدي، والدور الأول كان منزلنا، بينما كان الدور الثاني خاصا بقنصلية الولايات المتحدة الأمريكية، كان ذلك عام 1907.

الطابق الأرضي من المبنى يحوي المحلات الخاصة بوالده وفوقها منزل العائلة وفي الأعلى القنصلية الأمريكية
الطابق الأرضي من المبنى يحوي المحلات الخاصة بوالده وفوقها منزل العائلة وفي الأعلى القنصلية الأمريكية
ويضيف: حين وقفت أمام منزلنا السابق عادت إلي الكثير من الذكريات، خاصة أن المنزل كما هو لم تمسه يد الصيانة.

ويقولها بألم: المنزل تدهور، وليس كما كان ومايزال يحتفظ بروحه.

ديميتري اليوناني وصف الكثير من المحلات والفنادق التي تعزف الموسيقى الهادئة كل خميس، وكان يحضر تلك الاحتفالات، ومايزال يتذكر كل مبنى كيف كان، حتى البنك الأهلي فرع التواهي قال عنه: هذا البنك كان يسمي البنك الهندي. ونظر إلى جبال مدينة التواهي وابتسم وقال: كنت أصعد هذه الجبال في شبابي.

ويقول: كنت أركب الجمال لكي أنتقل إلى محافظة لحج. ويتأسف كثيرا لهدم بوابة عدن، حيث قال: بحثت عن باب عدن، ولم أجده.

في مدينة كريتر له ذكريات مماثلة، حيث كان منزل عمه (سينودونوس يروس) في المساحة الخاصة حاليا بمدرسة باكثير الثانوية للبنات، وكان هناك فلة لونها أصفر، وكانت هذا الفلة منزل عمه الذي كان يصدر البن والجلود للخارج.

يقول ديمتري إن البن اليمني من أفخم أنواع البن، ويتأسف بأن كثيرا من أشجار البن قلعت لتزرع مكانها شجرة القات.

ويعبر عن سعادته: عشت في أكثر من دولة، ولكن لم أجد أناسا كأناس مدينة عدن، قلوبهم طيبة وبسرعة تستطيع أن تتأقلم معهم، ولاتشعر بغربة، ما يؤكد كلامي أنني قبل أيام كنت أتناول طعامي في المطعم الصيني، وسألني شابان لماذا تجلس لوحدك، فانضممت لهما، دون أن أعرفهما، وعندما هممت بدفع الحساب أخبرني الجرسون قائلا: أصدقاؤك دفعوا عنك الحساب. وهذه التصرفات لاتجدها في أي دولة من دول العالم.

ويقول: سلفينيا مدينتي أصابها زلزال، وكثير من الذكريات ضاعت، ولكن ذلك الزلزال الذي أصابها لم يستطع أن يزلزل حب عدن في قلبي، بل زادني إصرارا لكي أعود إليها.

ديمتري أعطى وعدا لزوجته بأن يلتقيها في مدينة عدن ليريها المنزل الذي شهد أول أيام حياته، فجاءت مع فوج سياحي، والتقيا معا ليعيشا ذكريات كانت.

ما شد انتباه ديمتري في مدينة عدن قوة الإنارة، وهذا كان سبب تعرفه على الأخ صدقي همشري.

وفي الأخير قال ديمتري تيماتيوس: كنت أوصي أولادي بأنه لابد أن أزور عدن، وحين سألني أولادي لماذا إصرارك هذا على زيارة عدن؟ قلت لهم: إحساسي يخبرني إن زرت عدن قبل وفاتي فإن ربي سوف يغفر لي ويدخلني الجنة، وإن لم أزرها سوف يكون مصيري النار.

ديمتري يشير إلى مدخل منزله
ديمتري يشير إلى مدخل منزله
إحساس مفعم بالحب لمدينة بادلته الحب.

في ختام هذا اللقاء نقول إن ديمتري البالغ من العمر 73 عاما عاد بحنين يملأ قلبه ليزور مدينة عشقها، ولم تستطع السنوات الكثيرة أن تنسيه حبه لهذه المدينة التي شهدت ولادته.

لهذا يتقدم بالشكر للأخ رشاد مبجر الذي سهل له مهمته، والذي كان يتواصل تلفونيا لكي يطمئن على من أحب عدن، وكان الأخ م.صالح مشهور رفيقا له طوال فترة وجوده في عدن.

ديمتري لم يتمالك نفسه، ولم يستطع أن يمنع دمعات فرت من مقلتيه، وهو يحكي عن مدينة عدن.. فآآآآه لو تدرين كم أحبك ديمتري ياعدن، لتمنيت أن يحبك الجميع كما أحبك ديمتري.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى