> غزة «الأيام» د.ب.أ:

تحلق أسراب من طيور الغربان في أجواء غزة في مشهد نادر، قبيل سماع هدير الطائرات الجوية الإسرائيلية مما أثار حفيظة البعض هنا باعتبار تحليقها نذير شؤم لما تحمله الأيام القادمة على هذا الجزء من الأراضي الفلسطينية.

وغطى هدير الطائرات على صراخ أم محمد البقري التي تقطن بالقرب من مخيم الشاطئ عند استهداف إحداها مركزا للشرطة يبعد مئات الأمتار عن منزلها. وقالت ام محمد إن «هذه الغارات تسبب لنا الرعب فأنا لا اعرف هل أدير بالي على حالي ولا على أولادي، ما لنا غير هذا البيت (..) وين نروح (..)».

ولليوم السادس للقصف الجوي الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة والذي أسفر عن قتل عشرات من المدنيين ومسلحي حماس شلت الحياة بشكل كامل في غزة التي تعاني أصلا من انقطاع التيار الكهربائي ونقص المواد الأساسية والدوائية نتيجة 18 شهرا من الحصار والإغلاق المتواصل.

وأكد وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك مجددا عند منتصف الليلة قبل الماضية أن إسرائيل «مصممة على توسيع وتعميق» عملياتها في قطاع غزة ضد البني التحتية لحركة (حماس) التي تسيطر على هذا القطاع.

وكانت مؤسسات حماس ومنازل أعضائها ومقراتها الأمنية ومصادرها المالية هدفا للغارات العسكرية الجوية الإسرائيلية المتواصلة.

وتقول أم محمد أنهم «لا يستهدفون حماس وإنما يستهدفون كل الشعب، أين نذهب لا يوجد لدينا مكان نذهب إليه».

وأضافت «اليوم (أمس) دمروا المجلس التشريعي وأمس (أمس الأول) المجمع الحكومي وقبلهما الجامعة الإسلامية، القصف يطال كل مكان».

وعندما تمشي في غزة تلاحظ الغبار المشبع برائحة الموت والدم يزكم انفك والشوارع خالية إلا من بعض المضطرين المارة وبعض السائقين المغامرين في ساعات الليل الأسود.

وفي حال اقتربت من مكان تم قصفه وتدميره تزداد حدة رائحة الدم الممزوج بالبارود.

وعلى عكس باقي المناطق تعج المنطقة المحيطة بمستشفى الشفاء وسط غزة بالحركة من المواطنين الذين جاءوا للبحث عن مصابين أو سيدة جاءت للبحث عن قريب استشهد أو ربما التعرف على قتلى قطعوا وتحولت أجسادهم إلى أشلاء يصعب التعرف عليهم إلا من ذويهم.

ولا تغيب الطائرات الإسرائيلية عن سماء غزة التي تسرح وتمرح فيها، وبين الحين والأخر تسمع دوي انفجار شديد ناجم عن قصف احد الأهداف.

ومع حلول الليل لا يتغير في الواقع شيء إلا الظلام الذي يلف المدينة التي تنقطع فيها الكهرباء 18 ساعة بحد أدنى نتيجة لشح الوقود المورد من إسرائيل لمحطة الكهرباء الوحيدة في غزة التى لاتعمل اصلا بكامل طاقتها.

ولا يسمع سوى أبواق سيارات الإسعاف والدفاع المدني التي تتوجه إلى مكان قصف للتو أو أنها عائدة من مكان تم قصفه.

وأصيبت عشرات المنازل بدمار كلي أو جزئي نتيجة قصف محيط مقار ومؤسسات تعرضت للغارات الجوية الإسرائيلية على مدى الأيام الستة، ما دفع أصحاب تلك المنازل إلى مغادرتها.

وقالت أمينة صرصور (43 عاما) من غزة، تقطن في منزل مكون من عدة طبقات بجوار المجلس التشريعي الفلسطيني وسط غزة الذي دمر بشكل كامل صباح أمس «نحن لا نعرف ماذا سيقصفون بعد ذلك ما باليد حيلة لا يوجد مكان نهرب إليه، بيتك آمن مكان».

وأضافت «عندما قصف الطيران المجلس كان بمثابة شيطان رفع منزلنا عن الأرض وألقى به ثانية بقوة على الأرض مما أدى إلى أضرار كبيرة بالمنزل وتحطمت وتكسرت نوافذه وتدلت أجزاء من شرفاته الخرسانية.

وتابعت «إذا قاموا بالقصف مرة أخرى فإننا سنموت هنا».

لكن ماجدة صيام (45 عاما) اضطرت إلى أخذ ما تيسر أمامها واصطحبت أطفالها الخمسة ووالدهم ليتوجهوا إلى منزل شقيقها في حي الصبرة بعد تلقى صاحب احد المنازل المجاورة من اعضاء حماس تهديدا بقصف منزله، وقامت الطائرات الإسرائيلية بإلقاء عشرات من بيانات التهديد باستهداف منازل وأعضاء حماس ومخازن ذخيرتهم والأماكن والأسر التي تفتح بيوتها لهم.

وتقول ماجدة «لا يوجد لدينا ذخيرة أو أسلحة في منزلنا لكني آثرت أن اذهب انا واولادي إلى مكان أكثر أمنا قبل إن يتم استهداف المنزل».

وأضافت «على الرغم من ازدحام منزل أخي، لكن الازدحام أرحم بكثير من الموت تحت الأنقاض».

وأدى القصف المتواصل إلى تفاقم مشكلة الكهرباء وزيادة الرعب لدى السكان المحليين فى الوقت الذى عجزت فيه المؤسسات المحلية والدولية عن تقديم المساعدات والخدمات.

وقال فوزي حسونة مدير عام التخطيط في سلطة الطاقة الفلسطينية إن الشبكة المحلية الموصلة للكهرباء للعديد من المناطق والأحياء تضررت جراء استهداف الغارات الجوية للمباني والمنشآت.

وأضاف «إن العديد من المناطق تعاني بسبب انقطاع التيار الكهربائي منذ ستة أيام (..) نحن في أزمة حقيقية فعلا».

وأشار إلى انه «نتيجة لنقص المعدات لا نستطيع إصلاح الشبكة المتضررة وحتى إذا توفرت بعض قطع الغيار لا نستطيع تركيبها بسبب استمرار عمليات القصف».

ومنذ انطلاق العملية العسكرية الإسرائيلية على غزة في 27 ديسمبر الماضي ضد حركة حماس قتل اكثر من 400 فلسطيني، بينهم 42 طفلا وجرح 1900 بحسب مصادر طبية.

وقال معاوية حسنين مدير عام الإسعاف والطوارئ في وزارة الصحة إن عدد القتلى وصل خلال ستة أيام من الغارات الإسرائيلية المكثفة إلى 400 قتيل عدا ألفي جريح لا زالت حالة أكثر من 200 منهم توصف بحالة الخطر.

وذكرت مؤسسات حقوقية فلسطينية محلية أن ما لا يقل عن 30 في المائة من القتلى هم من المدنيين، مرجحة ارتفاع هذه الحصيلة. وتعاني مستشفيات القطاع من أوضاع صعبة في التعامل مع المصابين والجرحى.

وقال حسنين حتى قبل بدء الغارات الجوية على غزة لم تكن المستشفيات قادرة على العمل بطاقة كاملة نتيجة نقص المستلزمات الطبية وانعدام العديد من الأجهزة.

ويواجه المسعفون الفلسطينيون خطرا كبيرا على حياتهم.

ويقول احد المسعفين واصفا يومه الذي لم ينته «منذ أيام أنا لم استحم ولم احلق ذقني ولم أتمكن من رؤية أطفالي الوضع صعب». وتابع «غزة مكشوفة ومحاصرة ولا منقذ.. كل شيء مباح».

ويفضل الناس في غزة البقاء في بيوتهم على الذهاب خارجها إلا من شعر بنقص ماس في الغذاء وحليب الأطفال والدواء. ويصطف العشرات من المواطنين أمام ثلاثة مخابز رئيسية هي المتبقية تعمل في غزة.

ويضطر هؤلاء للبقاء لساعات لانتظار (ربطة) للخبز وتضم خمسين رغيفا من الحجم الصغير.

وانشغل هؤلاء خلال اصطفافهم أمام مخبز العائلات في شارع الوحدة الرئيسي بالحديث عن كيف يؤمنون المأكل والمشرب لأطفالهم مع استمرار الغارات الجوية واحتمال تنفيذ إسرائيل لعملية توغل برية بالإضافة إلى استهدافها للأنفاق الحدودية التي كانت بمثابة الوسيلة الوحيدة لسد رمق غزة من الغذاء والوقود والمستلزمات الأخرى للسكان بعد إغلاق إسرائيل للمعابر.

ويقول مسئولون في وكالة الغوث إن نقص الغذاء سيؤدي إلى مشاكل جمة في سد حاجة آلاف المواطنين الذين يحتاجون لهذه المساعدة.

وأطلقت وكالة الغوث الدولية (الاونروا) أمس الأول نداء استغاثة خاص لجمع 34 مليون دولار أمريكي مع تصاعد احتياجات سكان قطاع غزة أمام العملية العسكرية المتواصلة.

وقالت المفوض العام للاونروا كارين أبو زيد المتواجدة في غزة في بيان صحفي أرسل لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) «خلال السنوات الثماني التي أمضيتها في قطاع غزة لم يكن هناك حاجة لإطلاق نداء استغاثة بهذه الالحاحية (..) إنني مصدومة وحزينة للغاية للمعاناة التي أراها وأعاينها حولي».

موضحة «هذا النداء هو بمثابة موت أو حياة وبالمعني الحقيقي للكلمة فالاونروا بحاجة للمساعدة الطارئة وعلى مدى الأشهر الأربعة القادمة (..) إنني أناشد المجتمع الدولي الاستجابة السريعة وبسخاء يعكس الوضع المأساوي في قطاع غزة».

وبسبب سياسة الاغلاقات التي امتدت على مدى شهور كانت تلك المواد موجودة بكميات ضئيلة وقد تم استنفادها بالكامل خلال الأيام الماضية.

وعلى الرغم من دخول بعض المساعدات من مواد أساسية كالطحين والأرز اصطف العشرات أمام مخزن لبيع المواد الغذائية للشراء لأنهم يمضون أيامهم بدون وجود مواد غذائية أساسية.

وقال سامح جودة (54 عاما) ولديه سبعة أبناء «إذا كان لديك دقيق (طحين) في المنزل فأنت بأمان».

وأكد عدنان ابو حسنة المتحدث باسم الانروا إن «الاونروا ستبدأ خلال الساعات القادمة بإعادة العمل ببرنامج توزيع المواد الغذائية الذي اضطررنا لإيقافه في الثامن عشر من الشهر الجاري».

وأوضح ابو حسنة أن البرنامج يستهدف نحو ثلثي مجموع سكان القطاع والذي يبلغ عدد سكانه المليون ونصف المليون فلسطيني، داعيا إلى ضرورة فتح كافة المعابر وبشكل دائم.

وتسيطر إسرائيل على كافة معابر قطاع غزة وتخصص عددا منها لإدخال الدقيق والسلع الغذائية. ودعا مسئولون في حركة حماس المجتمع الدولي إلى التدخل.

واشترط إسماعيل هنية رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة التي تديرها حماس في كلمة بثها التلفزيون التابع لحماس العودة للتهدئة مع إسرائيل بوقف الغارات الجوية فورا وبلا قيد أو شرط ورفع الحصار وفتح المعابر قبل البحث في أي ملفات.