القرآن ومعجزاته

> محمد حسين الدباء:

>
الكلمة في التعبير القرآني:الذكر والحذف (1) .. قد يحذف من الفعل في القرآن الكريم حرف أو حرفان لغرض ودلالة على أن الحدث أقل مما لم يحذف منه، وأن زمنه أقصر ونحو ذلك، فهو يقتطع من الفعل لدلالة على الاقتطاع من الحدث.

أو يحذف منه في مقام الإيجاز والاختصار بخلاف مقام الإطالة والتفصيل، فإذا كان المقام مقام إيجاز أوجز في ذكر الفعل واقتطع منه، وإذا كان في مقام التفصيل لم يتقطع من الفعل، بل ذكره بأوفى صورة.. ومن ذلك على سبيل المثال:

(استطاعوا - اسطاعوا)

قال تعالى في سورة الكهف:(فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا) آية (96)..هذه الآية تحدثت عن السد الذي صنعه ذو القرنين من زبر الحديد والنحاس المذاب، فذكر الله سبحانه تعالى أن قوم يأجوج ومأجوج حاولوا أن يجتازوا السد بالصعود عليه فلم يستطيعوا، ثم حاولوا مرة أخرى بإحداث نقب فلم يستطيعوا أيضا.. فاستعمل الفعل (استطاع) في الآية استعمالا غاية في الدقة والجمال ليتناسب مع الحدث والمقام.. فقال سبحانه:(فما اسطاعوا أن يظهروه) أي يصعدوا على السد، فحذف التاء من أصل (استطاعوا)، ثم قال في الآية نفسها:(وما استطاعوا له نقبا) بإبقاء التاء.. فهل هذا الذكر والحذف للتاء جاء استعباطا زائدا أم لغرض؟!.. نقول نعم جاء لغرض ولدلالة توضح الحدث بأوضح صورة، وذلك أنه لما كان صعود السد الذي هو من سبيكة الحديد والنحاس المذاب أيسر من نقبه وأخف عملا، فخفف الفعل للعمل الخفيف فحذف منه التاء فقال: (فما اسطاعوا أن يظهروه)، حيث طوّل الفعل في العمل الشاق والثقيل فقال:(وما استطاعوا له نقبا).. إذا حذف التاء في الصعود وجاء بها في النقب.. وأيضا لما كان الصعود على السد يتطلب زمنا أقصر من إحداث نقب فيه فحذف من الفعل وقصر منه ليجانس النطق الحدث.. والله أعلم.

(تتنزَّل - تنزَّل)

قال تعالى في سورة القدر:(تنزَّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) آية (4).. وقال في سورة الشعراء :(هل أنبئكم على من تنزَّّل الشياطين (221) تنزَّل على كل أفاك أثيم (222)).. وقال في هذه الآيات (تنزَّل).. في حين قال في سورة فصلت: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزَّل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون) آية (30).. فقال في آيات القدر والشعراء (تنزَّل) بحذف أحد التاءين، وقال في آية فصلت (تتنزَّل) من دون حذف، ذلك - والله أعلم - أن التنزل في آية فصلت أكثر مما في آيات القدر والشعراء، لأن الملائكة تتنزَّل على المؤمنين عند الموت لتبشرهم بالجنة (2)، وهذا يحدث على مدار السنة في كل لحظة يموت مؤمن مستقيم - كما يحدث الآن في غزة الصمود والكرامة - فتتنزل الملائكة لتبشرهم بالجنة، فأعطى الفعل كل صيغته ولم يحذف منه شيئا.. أما في آيتي الشعراء فإن التنزل أقل، لأن الشياطين لا تنزل على كل الكفرة وإنما تنزل على الكهنة وليس كل الكهنة وإنما على قسم منهم، وهم الموصوفون بقوله:(كل أفاك أثيم)، ولا شك أن هؤلاء ليسوا كثيرا في الناس، وهم ليسوا بكثرة الأولين ولا شطرهم، بل هم قلة، فاقتطع من الحدث فقال:(تنزَّل) بحذف أحد التاءين.. وكذلك في آية القدر فإن تنزل الملائكة إنما هو في ليلة واحدة في كل عام، وهي ليلة القدر، إذاً فهو أقل من التنزل الذي يحدث باستمرار من يحضره الموت.. خلاصة القول إنه اقتطع من الفعل أحد التاءين في آيتي الشعراء وآية القدر لأن التنزل أقل، ولم يحذف التاء من آية فصلت لأن التنزل أكثر.. والله أعلم.

وللحديث بقية.

1- (بلاغة الكلمة في التعبير القرآني) د. فاضل صالح السامرائي.

2- (فتح القدير) الإمام الشوكاني.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى