طبائع الاستبداد والديمقراطية المستعادة

> غسان تويني:

> الشغوفون بقراءة النظريات التآمرية سيجدون صعوبة في تعيين الانتخابات التي هي باكورة السياسة الاميركية الجديدة، أهي انتخابات العراق التي فتحت الابواب مشرعة امام العودة الى الديمقراطية في بلد كانت السياسة الاميركية.

قد جعلته مختبرا للعنف الامني ولطبائع الاستبداد الذي تتوالد منه الثورات والثورات المضادة، ومن هذه وتلك حروب اهلية، عرقية هنا ودينية هناك وعقائدية ومذهبية هنالك...

أم الانتخابات الاسرائيلية التي يكاد يجمع المراقبون على انها ستأتي بحزب آلهة الحرب الى حكم سينتقد جيش الانتصارات الخرافية التي دفنت تحت ركام الفضائح والمآسي والمهازل التي رافقت هذه وتلك!

• • •

ويبقى الشغوفون بالبحث عن جذور الحكم في تاريخ الامم والشعوب وثقافاتها... من هؤلاء من سينتفض صارخاً ان العراق الذي تأسس حول نظام الملك فيصل الاول، والعقائدية الثورية التي مهدت له ورافقته واحتضنته تطلعاتها القومية النهضوية العروبية، كان من المستحيل ان لا يستجيب لتحديات الحرية وحقوق الانسان فيعيد الديمقراطية الى هياكلها الدستورية، ويطرد من هذه الهياكل أشباح صدام ومن سبقه ومن حاول وراثته من ذوي «طبائع الاستبداد» والمتتلمذين في مدارسهم المتكاثرة. هكذا يجب أن نقرأ نتائج الانتخابات العراقية وخصوصا هزيمة الانفصاليين من كل نوع وتعبيد الطريق أمام زعامات علمانية أو متقرِّبة منها ومنتسبة إليها.

ولا بأس ان نفترض، ترضية لهواة «السيناريوات التآمرية»، ان واشنطن الجديدة، اذا لم تكن هي التي صنعت عودة الديمقراطية، فقد تكون ساهمت بقدر غير قليل لأنها لم تقطع الطريق على هذه العودة، بل أكثر، قد تكون ساعدتها بإزالة عراقيل كان يمكن أن تمنع أن تكون الطريق سالكة.

• • •

وننتقل الى المسرح الإسرائيلي حيث يجب ان نقول ونؤكّد بادئ ذي بدء ان المعطيات تختلف تماماً. أولاً، لأن لأميركا في إسرائيل ومعها ارتباطات عضوية ملزمة وقد يكون من الصعب إن لم نقل من المستحيل التوفيق بينها في اطار سياسة «منطقية» لا تتنافى في بعض جوانبها على الأقل مع القدرات الالزامية لإسرائيل في مواقع القرار الاميركية المتناقضة المصالح في أحيان كثيرة. علماً أن بعض هذه المصالح قد تلتقي أو تتناقض مع مصالح أميركية «جزئية» (وخصوصاً اقتصادية) لها تأثر بالمصالح الإسرائيلية أو تأثير عليها. مما يجعل رسم أو قراءة السياسة الأميركية حيال إسرائيل، بل في داخل الجسم السياسي الإسرائيلي، مسألة في غاية التعقيد لتعدّد أبعادها وإحاطتها بهالات من السرية.

من أبرز المتناقضات، مثلاً، ان المصلحة الاميركية النفطية ومشتقاتها ومترتباتها قد – نقول قد، فقط ولا نجزم – تتناقض مع الجنوح الحربي «النتنياهوي» الغرائزي، الذي قد يتسبب باشتعال حريق في المنطقة العربية. وهو حريق لن تسلم منه إسرائيل مما يرتب على ذيوله والنتائج اعباء لا احد يقدر ان يحسب نتائجها سلفاً او يتحسّب لها.

• • •

وهذا يعني ان واشنطن لن تعطي نتنياهو تفويضاً مطلقاً، بل على العكس ستحاول ان تصل معه الى تصوّر مشترك للحرب والسلم. وهو ما يفرض على واشنطن ان تميل الى حكومة تتألف نتيجة الانتخابات وتكون برئاسة نتنياهو وان تدخلها عناصر تشكل فرامل للجنوح الحربي. وهذا امر يفتح ملف المستقبل الإسرائيلي برمته، بل ملف الشرق الاوسط بكليته لان الحرب الإسرائيلية لن تكون ولا يمكن ان تكون مقتصرة على جبهة واحدة، حتى ولا غزة او الضفة لان ذلك قد يطلق ردود فعل متلازمة غير قابلة للحسبان.

وغير القابل للتحسب او الحسبان هو استطراداً ردود الفعل الدولية والاقليمية خصوصاً، اي ايران وتركيا ومصر وسوريا واوروبا المتوسطية، (بما فيها أفريقيا الشمالية والخليج).

• • •

الشيء الأكيد هو ان المعركتين الانتخابيتين الاكثر تأثراً بالنهج الذي سيعتمده نتنياهو هما فلسطين ولبنان. فلسطين حيث الوصول الى اعادة اللحمة بين الفصائل كلها في اطار حكومة وحدة توحّد... أو لا تنشأ الدولة الفلسطينية، بل تتفجّر القلة التي بنيت منها منذ رئاسة ياسر عرفات.

فحذار ان تصبح الانتخابات هذه، بين مدارس، سباقاً ارهابياً للمفاضلة بين مدارس عدة لعلها تؤدي الى خدمة نتنياهو بالمساهمة في توسيع الحريق الذي قد تقوده طبيعته الانتحارية الى اشعاله «عليّ وعلى أعدائي يا ربّ».

• • •

ختاماً لا نخالنا بحاجة لان نقول ان الخط الامامي في صفوف «الأعداء» المهددين بالاحتراق هو لبنان واللبنانيين بدون تمييز. فعلينا إذن أن نخوض الانتخابات ليس كفرقاء متحاربين يتبارون في عملية تدمير ذاتي خدمة للعدو، بل كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وأول هذه الواجبات المحافظة على الآخر واحترامه واحترام حقوقه.

تلك تكون الديمقراطية المستعادة حقاً، وما سوى ذلك هو من رواسب «طبائع الاستبداد».

رحم الله المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي الذي أورثنا هذه الشرعة.

عن «النهار» اللبنانية 2/9

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى