الفنان الكبير محمد عبده زيدي .. قراءة نقدية في أغنية (ورأسك)

> «الأيام» عصام خليدي:

> قدم الفنان محمد عبده زيدي في غنائياته شخوصه وعناصره وأدواته الإبداعية مستنداً إلى محورين مهمين، الأول يصب في خدمة النص الغنائي بإضافات مبتكرة لجمل لحنية ذات أبعاد ورؤى موسيقية جديدة متنوعة المقامات والإيقاعات.

والبعد الثاني جسد من خلاله قدرته الفائقة وتألقه في التعبير النغمي الدرامي وتوظيفه لخدمة انفعالاته وأحاسيسه ومشاعره المتقدة المتدفقة الجياشة بشكل متناغم نابض وحي، إذ إنه اتبع منهاج وأسلوب سيناريو القصة التي (تقرأ بالأذن) معتمداً على ملكاته وأدواته الموسيقية الهائلة، فتبدأ الأحداث في أغنياته وتتصاعد بحبكة درامية (موسيقية) وتنتهي بالنهاية التي يختارها من واقع تجاربه الحياتية. وسنتطرق في هذا السياق لأغنية نجاحاً وحضوراً مهماً في مشهد الغناء اليمني المعاصر، (ورأسك) نسمع الناس في عدن، الصغار والكبار يحلفون بهذه الكلمة في اليوم الواحد عشرات المرات للتدليل على صدقهم، أو صدق أفعالهم، خاصة إذا أحسوا بأن الطرف الذي يخاطبونه يشك في صدقه، لكن ولا خطر لأحد منا، أو حتى من الشعراء قبل مصطفى خضر أن هذه الكلمة العادية، المستعملة في المتداول اليومي يمكن أن تصلح مطلعاً لأغنية جميلة.

ومن هنا نلاحظ أن ميزة الشاعر أنه يستطيع أن يستخرج السر الكامن في روح اللغة/اللهجة/ الكلمة، على الرغم من أن الآخرين يعيشون معها طوال الوقت، ويستخدمونها في كل لحظة في متداولهم اليومي، لكنها لا تعني لهم أكثر من مدلولها الظاهر حين الاستخدام، أما الشاعر فإنه يقدر أن يجعل من الكلمة والمفردة العادية التي لا تثير اهتمام الآخرين شيئاً أخاذاً يثير الدهشة في نص شعري غنائي يعجب الناس كأنهم يسمعون بها لأول مرة، وسوف تكتسب هذه المفردة العادية معنى جديداً من راهن قراءتها في صورتها الشعرية الجديدة التي منحها إياها الشاعر مصطفى خضر وهو يقول:

ورأسك أنت أول حب

أنا أخلص له من قلبي

وأشعر به بأنه حقيقة

مش أوهام تلعب بي

كفاية ما لعب بي الوهم

وخلانا أعيش في عذاب

وبعد الأنة والآهات

عرفت أني أحب سراب

وكأن مصطفى خضر يقول لنا في هذا النص، وفي سواه من نصوصه الغنائية التي كتبها باللهجة العدنية، أن كل شيء يمكن إعادة صياغته ليتوالد من جديد داخل واقع النص الشعري، وفي متواليات لا نهائية من الإعادات والإضافات لترتيبها ترتيباً جديداً، بفيوضات ذهن أو مخيلة، وبلذة قراءة لنص محتمل جديد.

لكن حبك عليّ جديد

في اسمه في شكله

ذي كلمة حب قليلة عليه

ياريت في كلمة تصلح له

أقولها لك بكل حنان

وأعيشها كل يوم مرات

التحليل المقامي والإيقاعي

استطاع الفنان محمد عبده زيدي باقتدار شديد أن يجعلنا نعيش ونحس هذه المقدرة والإمكانية من خلال بناءاته اللحنية الرائعة البديعة بترداده لكلمة «ورأسك» التي تبدأ بها الأغنية، مرات عديدة كمحور لمطلع الأغنية، وللنص بمجمله، وإعطائها و(إعطائه) حياة متجددة تتجلى في ظاهره وباطن المعاني الرؤية التي تتضمنها هذه الكلمة(القسم) فكان اللحن متناسباً في لغته التعبيرية الدرامية الموسيقية الفنية، ومعبراً عن بعدها الذي (سما) بها في نطاق المتداول اليومي العادي إلى مصاف الشعر الغنائي، وهذا التردد لمفردة (ورأسك) في مطلع الأغنية وفر وبيّن جلياً درجة عالية من التوازن الجمالي الذي يبدو أنه وراء العذوبة اللحنية التي تجعل المستمع في حالة حضور وجداني (ونشوة فنية نادرة) مما يصنع الفنان (الزيدي) في مصاف الملحنين القلائل الذين يمنحون الكلمة والأغنية عموماً قدرات تعبيرية تصويرية، درامية وإضافات موسيقية، إيقاعية ونغمية، ودلالات ورؤى (إبداعية استثنائية) تعكس النفس اللحني والأبعاد الجمالية لهذا الفنان (العبقري) الذي يعد ضمن قلة من الملحنين ليس على مستوى اليمن وحدها بل على المستوى العربي الذين تبنوا (عنصر التصوير والسيناريو الدرامي في المضمون الجمالي للأثر الموسيقي)، فوق أنه يجمع في ألحانه بين عنصري (التعبير والتطريب) وربما كان من المهم الإشارة أن مصطفى خضر كان في اختياره المفردة العادية، واشتغاله على اللهجة في العديد من أغانيه إن لم يكن كلها يتتبع خطى أستاذه الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان، صاحب الباع الطويل في هذا المجال، إذ عُرف عن المرحوم لطفي اهتمامه بالنص البياني الذي يخدم الموضوع أو الحديث، والنص الجمالي الذي يخدم الإبداع، والنص التقني الذي يخدم النصين السابقين، البياني والجمالي، وقد أبدع الفنان الراحل محمد عبده زيدي صاحب الدراما الموسيقية اليمنية في وضع لحن أغنية (ورأسك)، فلحن المقدمة الموسيقية على مقام (النهوند)، واستخدم فيها الإيقاع (المقسوم 4/4) ليبدأ الغناء على مقام (النهوند على درجة الدو) ومما يجدر الإشارة إليه أنه خلال الغناء بالمذهب يتغير وزن الإيقاع إلى وزن (4/4 الوحدة الكبرى) وفي الكوبليه ينتقل الزيدي إلى مقام آخر يسمى (البيات على درجة الصول) في هذه الأبيات:

«حياة روحي أنا أقسمت بحاجة أغلى من روحي» .. ثم ينتقل إلى مقام (الحجاز على النوى) في المقطع الذي تقول كلماته:«ورأسك أنت آمالي وآلامي وأفراحي» ليعود مرة أخرى إلى مقام (البيات على النوى) في هذه الأبيات:«أنا ما حلمش بشيء ثاني ذا حبك كل ما أتمناه/ولا فكرت ولا مرة بأنه حقيقة) إلى هنا لا يزال لحن المقطع على مقام (البيات)، لكن الزيدي وبمهارة فائقة يفاجئنا بانتقاله إلى جنس مقام (الصبا) في «مش أوهام، ورأسك». وفي الكوبليه الثالث والأخير ينتقل الزيدي إلى جو مليء بالتفاؤل والبهجة والفرح فيستخدم الإيقاع (الشرحي العدني 6/8)، فيتحول بإمكانية الموسيقي البارع المحنك والمقتدر إلى مقام جديد هو مقام (الهزام على درجة مي) في المقطع الذي يقول:«يازهرة في ربيع عمري/يافجر جديد يصحيني/ياشمعة نورت ليلي/ يا أحلى لحن يشجيني».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى