دار سعد .. جمرك السلطنة على حدود المستعمرة .. منعوا القات عن عدن فانتعشت حياة الدار!!

> محسن عبده قاسم:

> دار سعد.. أو دار الأمير، كما كانت تسمى إلى عهد قريب, هي المنطقة الواقعة شمال مديرية الشيخ عثمان وأحد مراكزها بعد الاستقلال، إذ أنها ظلت لعقود طويلة تابعة للعبادل سلاطين لحج.

سميت بدار سعد نسبة للأمير سعد بن سالم الذي بنى فيها داراً له ولأسرته, وكانت المنطقة خالية من الحياة أقرب ماتكون لصحراء قاحلة.. واستخدمت كنقطة جمرك للداخل إلى الحوطة المحروسة عاصمة لحج. عام 1953م عملت حكومة لحج على جلب خبراء أجانب لمسح الأراضي تمهيداً لتعبيد طريق السلطنة من الحوطة إلى عدن جنوباً وإلى المناطق الواقعة شمالا.. عقب ذلك اتفقت حكومتا لحج وعدن على تعبيد الطريق بين كرش ودار الأمير، وتم التخطيط لتعبيده عام 1954م, تضمن الاتفاق أن تكون السفلتة من دار الأمير إلى الحوطة، أما باقي الطريق من الحوطة إلى كرش فيعبد بالحجارة والتراب.. وتعهدت سلطنة لحج بدفع واحد وسبعين ألف شلن سنوياً لصيانته، على أن يتم الإنفاق للمشروع من المبالغ المخصصة لتحسين المستعمرات.

كهرباء دار الأمير من الشيخ عثمان

في العام 1954م جرى البحث بين حكومتي لحج وعدن بشأن إمداد دار الأمير ومحلج القطن المزمع إقامته في صبر بالكهرباء.. تضمن البحث أيضاً مد الكهرباء من محلج صبر إلى الحوطة، وفي فبراير 1955م بدأت الشركة المنفذة بمد الكهرباء من الشيخ عثمان إلى صبر وانتهت في مارس من العام نفسه، ثم واصلت مد الأعمدة إلى الحوطة.

على المستوى الصحي لم يكن في دار الأمير سوى مساعد صحي واحدا مع توفر الأدوية اللازمة، وتأجل بناء الوحدة الصحية بسبب التفكير في مشروع مدينة الدار الجديدة.

منع القات في عدن ينعش حياة الدار !!

كما أسلفنا كانت دار سعد أرضاً قفرا ليس فيها من علامات الحياة سوى الشيء القليل.. ومع إعلان حكومة عدن في (1957م ) قرارها بمنع تعاطي القات في المستعمرة تحولت دار سعد إلى شبه سوق ليلي كبير لبيع القات.. وصار مألوفا رؤية أفواج المركبات وحشود الرجال والنساء تمتد من الدار إلى قلب الشيخ عثمان، وارتفعت أجور (متاكي) مجالس (الموالعة) من مدمني القات.. وأمام هذا التحول اهتمت إدارة الأمن في سلطنة لحج بزيادة عدد الجنود فيها لحفظ الأمن والنظام، وبذل كل جهد ممكن لراحة المخزنين.. وحددت حكومة لحج سعر القات وأجور مقاعد الجلوس، ووضعت التسهيلات اللازمة لبائعي القات ومستهلكيه، خاصة أنه تم جلب قات الحبشة (الهرري) بحراً عبر رأس العارة من جيبوتي.. واستغلت سلطنة لحج تردد أفواج القادمين إلى الدار لتسوق بينهم منتجاتها الأخرى من الخضار والفواكه.

بلدية الدار.. يديرها الشاعر الفقيه

في إطار اهتمام سلطنة لحج بدار سعد أنشأت لجنة للقيام بشؤون البلدية فيها، تولاها عام 1957م الشاعر والأديب الراحل صالح الفقيه.. وكانت لدار سعد ميزانية خاصة بها، وتم الإعلان عن بيع قطع معينة في مخطط دار الأمير الجديد، سمح للعدنيين العرب منهم والمتعربين بالشراء وامتلاك عقارات فيها.

القات في الدار يربك الحياة في عدن !!

عندما أقدمت حكومة عدن على منع القات في المستعمرة (عدن) أرجعت ذلك لأسباب اقتصادية واجتماعية وصحية، فاستيراده لايكلف مبالغ طائلة من العملة الصعبة، وهو ماعكس نفسه على المستهلك، مما دفع بالموظفين والعمال للمطالبة بزيادة الرواتب.. وعلى المستوى الاجتماعي فالقات يسبب ضعف النسل وشتات العائلة وغياب رب الأسرة لساعات طويلة عن منزله.

قبل اكتمال العام لتطبيق القانون شكلت حكومة عدن لجنة لدراسة ما إذا كان بالإمكان الاستمرار بتنفيذه، وخرجت اللجنة بتقرير مفاده أن القات المستورد من أثيوبيا إلى دار سعد عبر جيبوتي كان بنفس المبلغ من العملة الصعبة ونفس الوارد من شمال الوطن، ففقدت عدن دخل ضرائبها من القات.. بل أن القانون أضاف أعباء كثيرة على رجال الأمن في نقاط التفتيش الرسمية، ومطاردة المهربين المحترفين على امتداد الحدود بين السلطنة والمستعمرة.

وفي المجالين الصحي والاجتماعي أشار التقرير إلى أن القات لايقاس ضرورة بالمخدرات الأخرى، وأن دار سعد تفتقر إلى كثير من العناية الصحية على عكس ماتتمتع به عدن من تقدم في هذا المجال وأوضح التقرير أن النساء يشتكين غياب أزواجهن لوقت متأخر من الليل، وأن بعض النساء يذهبن دار سعد ويتركن أولادهن دون رعاية وأورد التقرير حكاية الطفل الذي مات في عدن ووالده كان مقيلاً في دار سعد.. وقد تقرر إلغاء قانون المنع ليعود القات مجدداً إلى عدن في الأول من إبريل 1958م.

نمبر ستة والخشبة !!

في أبريل 1952م تم افتتاح كلية عدن التي عرفت بعد ذلك بكلية (البيومي) نسبة للشخصية السياسية العدنية المعروفة محسن علي بيومي الذي رحل عام 1963م، ليتغير اسمها بعد الاستقلال إلى كلية (عبود) أحد شهداء مرحلة الكفاح المسلح، وهي اليوم تحمل اسم ثانوية عدن النموذجية. على بعد أمتار معدودة جنوب الكلية أقامت القوات البريطانية نقطة تفتيش عرفت برقم 6 وتداولها الناس (نمبر ستة)، يحدها مباشرة من جهة الغرب المدخل المؤدي لبستان الكمسري.. ويخطئ البعض الذي يعتبر تلك النقطة آخر حدود مستعمرة عدن بسلطنة لحج، ذلك أن الكلية كان جرى تشييدها على أرض تتبع إداريا حكومة عدن، فحملت اسمها، وكما عرفت من متقدمين في السن أنه قبل بناء الكلية كان هناك علم في طرف موقع جدار الكلية الشمالي إشارة لآخر حدود لحج بعدن وهو نفس الحال الذي ينطبق على نقطة العلم القائمة حتى اليوم، وكانت الفاصل بين السلطنة الفضلية وعدن واليوم بين محافظتي عدن وأبين من جهة الشرق. وعلى بعد خطوات من جمرك دار سعد الذي مازال مبناه قائماً حتى اللحظة في بدايات مدخل المدينة على يسار الآتي من الشيخ عثمان كانت هناك نقطة أمنية تسمح أو تمنع مرور المركبات والآليات إلا بعد التأكد من أن الجمركة شملتها أو أعفتها عرفت بالخشبة، وكان موقعها أمام محل (التألق) للاتصالات في الشارع الرئيس لدار سعد.

انقلب السحر على الساحر.. ومن الدار جاءت نصرة الجزائر !!

لم تكن مبررات السلطة الاستعمارية من قانون منع القات في عدن تمت للحقيقة بأية صلة، فالهدف كان سياسياً.. ففي عامي 56/1957م شهدت عدن انتفاضات شعبية بقيادة الجبهة الوطنية المتحدة ضد السياسة البريطانية على الصعيدين الإقليمي والقومي.. والاضرابات العمالية في أكثر من مرفق حيوي سبب قلقلا للإدارة البريطانية ومصالح شركاتها، فكان من الطبيعي البحث عن حل لهذا الغليان الوطني العارم، فكانت تجربة القات كحل نافع كونه مخدراً ضرورياً في حياة الناس في عدن.. وبمجرد انتقالهم إلى دار سعد، وإن كان لايكلف إلا أجراً بسيطاً للمواصلات إلا أنه سوف يشغلهم عن أمور السياسة إلى حد كبير، فابتعادهم عن أسرهم ومتاعب العودة في طابور التفتيش على الحدود، وتعرض الخارجين عن القانون من المهربين للغرامة أو السجن إلى جانب الصرفيات التي يتطلبها المقيل .. وهو ماكان يحصل في كثير من الأحيان، لكن الهدف السياسي الذي جاء من أجله القانون لم يؤت ثماره فتوفر القات في بقعة واحدة جمع الآلاف من المواطنين حوله، الأمر الذي سهل على الأحزاب السياسية كالرابطة والجبهة الوطنية المتحدة الالتقاء يومياً بأعضائهما والمناصرين لهما، فكانت النقاشات مباشرة ومفيدة، وتطور الحال إلى إقامة سرادقات ضخمة للمقيل تلقى فيها الخطابات السياسية وتقدم الأغاني الحماسية وشهدت دار سعد حفلات موسيقية تاريخية أقامتها رابطة أبناء الجنوب العربي لنصرة ثورة الجزائر قدمت فيها الأغاني العاطفية والوطنية الحماسية من أشهرها أنشودة: ياشاكي السلاح شوف الفجر لاح

حط يدك على المدفع زمان الذل راح

كلمات وألحان الأستاذ الراحل عبدالله هادي سبيت، وغناء الفقيد محمد صالح حمدون.

خبر من B.B.C عن أسلحة مخزونة في الدار

في مايو 1958م دخلت كتيبة من الحرس الحكومي قوامها 150 جندياً حدود سلطنة لحج وتوجهت إلى دار سعد وفتشت منازلها بحثاً عن السلاح والمتفجرات غير المرخص بها، واعتقلت 3 رجال واستحوذت على مجموعة من الأسلحة والذخائر والأموال. وأذاعت هيئة الإذاعة البريطانية هذا الحدث في اليوم نفسه، وأضافت إليه أن عمليات التفتيش انتهت بالعثور على مايزيد عن مائة قطعة من الأسلحة الأوتوماتيكية من بينها بنادق رشاشات ومسدسات مع آلاف الطلقات وأطنان من المتفجرات، وأن التحريات أوضحت أن استيرادها كان الشرق الأقصى.. ووصف مصدر حكومي لـ B.B.C أن وجود هذا المخزون الضخم من السلاح على حدود المحمية المتاخمة لعدن يعد تهديداً خطيراً لايمكن تحمله.

احتج السلطان علي عبدالكريم على خبر الإذاعة البريطانية، وقال إنه مبالغ فيه وأن المفرقعات تستعمل في الاحتفالات الدينية، أما الأسلحة فأخذت من مركز الشرطة والجمرك وليس من المنازل.حاولنا في ماتقدم أن نعرف القارئ العزيز بشيء عن دار الأمير أو دار سعد.. لم يعد (الدار) موجوداً صار أثراً بعد عين، واليوم منطقة دار سعد مديرية بذاتها في محافظة عدن وتشهد نهضة عمرانية واسعة . ليس من ختام إلا قول الحق تعالى: «ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين».

مراجع :

(1) علاقة سلطنة لحج ببريطانيا 1918-1959م د.دلال بنت مخلد الحربي .الرياض

(2) (العبادل سلاطين لحج وعدن) حسن صالح شهاب ط .2 مركز الشرعبي (صنعاء)

(3) أغنيات وحكايات

محمد مرشد ناجي ط1 مكتبة الجيل (جدة).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى