> محمد علي حسين:

بداية فلتعذرني أسرة المرحوم الأستاذ حسين محمد الجابري، ومحبيه، إن لم أوف المرحوم حقه في هذه الأسطر القليلة، والتي ستبقى قليلة مهما زاد عددها غير أنه يكبر شأنها بنشرها في صحيفة «الأيام» صحيفة كل الناس التواقين للحياة الكريمة علها تضيء جانبا من حياة (الجابري) (أبا ذر) المناضلين اليمنيين عموماً.

عُرضت عليه المناصب الوزارية في حكومة الاستقلال ورفضها قبل أن تتوحد النظرة للمستقبل وتتصالح قوى الثورة والنضال ويتحدد المسار بعد الاستقلال (بميثاق شرف).. أفكار ورؤية سبقت وقتها، فلم تجد من يعبرها أي اهتمام وإيمان بها عند (الجابري) يستند إلى إيمانه بالله وبرسوله وبالإسلام ديناً، (والدين المعاملة) الحسنة والاستقامة في القول والعمل/ نهج اختط (الجابري) لنفسه رحمه الله، وتقيد به، لم يحد عنه حتى وافاه الأجل، حيث عاش رحمه الله، بسيطاً في ملبسه، ومأكله ومشربه، ومسكنه ومركبه!!

معروف أنه أبو المناضلين في مودية والمنطقة الوسطى (لنيل الاستقلال) بلا منازع ومرجع للعمل السري في أوساط القوات المسلحة بالحكمة والإرشاد، والدعوة للحرية والاستقلال، لم يحمل سلاح، ولا يجيد الرمي بالسلاح ولا حتى (بالمسدس)، قوته كانت في عقله رحمه الله ولم تكن في ذراعه، استمد معرفته في الأول من والده (معلم القرآن بمودية، محمد الجابر، أكمل دراسته الثانوية بمستواها القديم (بكلية عدن) وطور نفسه بالقراءة، وحفظ الأشعار لبعض الشعراء، أمثال أبي القاسم الشابي، ومالك ابن الريب، الذي كان يردد قصيدته التي رثى بها نفسه، وكأنما كان الجابري أيضاً يرثي بها نفسه، عندما تسمعها بصوته على الشريط من المسجل، تجد أنه متميز كثيراً!!

لقد عرفت المرحوم، أستاذاً لنا بمدرسة مودية المتوسطة للأعوام (62،61،60) أستاذ جاد ومجد! وعرفته وطني مثابر عندما نظمني والزملاء الطلبة:(محمد عبدالله البطاني، وعبدالله عمر البطاني، وعمر حسين الموقع (بخلية) تنظيمية، وإنشاء كذلك عدة خلايا سرية، لم تكن هذه الخلايا تعرف بعضها بعضا، وكان رحمه الله، يوزع وقته بيننا، ليعلمنا أسس وقواعد العمل الوطني، كان حكيما- رحمه الله- يوزن الأمور بدقة، ويتحسب لعواقبها.

ومن أمثلة ذلك للاستدلال، أنه كان (رحمه الله) قد حذر (المسيرة) في طريق العودة من (جمعان إلى مودية) بأن تتجنب الطريق الذي يمر بجوار (أمقليته) خشية من أن ينزغ الشيطان بين الجانبين، غير أن بعض (المندفعين) لم يلتزموا بتوجيهاته، فكان ما كان بين أخوة الحي الواحد من القتلى والجرحى، مما جعل العقلاء من الجانبين يتندمون على تلك الواقعة، ويسارعون للمصالحة والتسامح مقدرين(للجابري) حكمته وتعقله.

ثم وبعد (انفراد الجبهة القومية) بانتزاع الاستقلال من بريطانيا في عام (67م) بعيداً عن مشاركة جبهة التحرير (المدعومة حين ذلك من القوات والاستخبارات المصرية)، وإفشال الأجندة البريطانية بمنع الاستقلال المقرر عام (68م) لحكومة الاتحاد الفدرالي فإن المرحوم حسين الجابري، لم يشترك في السباق على مناصب حكومة الاستقلال الوزارية!! ولا على العمارات والفلل التي أخلتها القيادات البريطانية، والسلاطين والوزراء الاتحاديين، في خورمكسر والتواهي (جبل هيل) ومدينة (الاتحاد/ سابقاً) مدينة الشعب/ حالياً)، وإنما طالب أولاً بالمصالحة الوطنية ورسم الطريق لمرحلة مابعد الاستقلال وتوضيحه بميثاق شرف، حيث كان يرى (رحمه الله) في الاستقلال وسيلة، وليس غاية.. وسيلة لقيام حكم وطني تتشارك فيه القوى الوطنية لقيام نظام حكم (عادل وحكيم)، يراعي مصالح الشعب عموماً وقواه الوطنية ويوازن ذلك مع مجموع المصالح العربية، وخاصة مصر عبدالناصر والقوات المصرية التي دعمت الثورة في شمال الوطن، وكانت تدعم بقوة (جبهة التحرير) ومع المصالح الدولية وخاصة البريطانية التي يوجد لكثير من الناس معها مصالح تجارية ومعيشية من خلال الخدمة، والحقوق التعويضية وخصوصاً وأنها لم تدافع عسكرياً بقوة عن خيارها في مواجهة الثوار، كما فعلت القوات الفرنسية مع ثوار الجزائر في ذلك الزمن، حيث اعتمدت السلطات البريطانية على السياسة (أولاً وثانياً) وبقراءة فاحصة لواقع الحال عشية الاستقلال (30/نوفمبر/67م) نجد أن ثوار الجبهة القومية- سامحهم الله- قد استعدوا للسياسة البريطانية وتحدوها بإفشال أجندتها، وناصبوها الخصام كعدو (مطلق) واستعدوا كذلك للاستخبارات المصرية وتحدوها بإقصاء ثوار جبهة التحرير عن المشاركة في الحكم!!، الأمر الذي يدل على قوة رجال (الفعل) في بنية الجبهة القومية، والافتقار كثيراً لرجال (الفكر)..

وهكذا ففي حين وحدت مرحلة الكفاح بين الثوار، فقد مزقت السلطة بينهم للأسف الشديد!! مما كان سببا لدورات العنف بينهم والتي دفعوا ثمنها من دمائهم الزكية، وأرواحهم الطاهرة دون أي سبب وجيه أو معقول! كما يعلم ذلك اليوم الجميع، وذلك هو ما كان يخشاه المرحوم/ حسين الجابري، وحذر منه-رحمه الله-، بقوله لنا: «إذا كنا لا نقدر أن نمنع الصدام بين رفاق النضال، فعلينا عدم المشاركة فيه».

ومثل ذلك موقفه من (الوحدة اليمنية)، فقد كان الجابري-رحمه الله- من أوائل المؤمنين بها (كقدر ومصير) للنهوض بالشعب اليمني على قاعدة(المخوة والعدل) وعلمنا الإيمان بها والعمل لأجلها منذ أوائل الستينيات، مع حركة القوميين العرب، لذلك فقد أراد أن يتم الإعداد والاستعداد للوحدة بين شطري اليمن بجدية! والتعامل مع ذلك كهدف (سامٍ) ووسيلة (مشروعة وشرعية) لتعميق (التلاحم والمخوة، ونشر العدل) بين أبناء اليمن شمالاً وجنوباً، مبدياً تخوفه -رحمه الله- من إهمال شأن الوحدة!! ومن إقامتها الفورية(كما طلب ذلك الرئيس العلامة المرحوم/ عبدالرحمن الإرياني، من الرئيس المرحوم/ قحطان الشعبي، مع بداية الاستقلال!، ومعبراً عن قلقه -رحمه الله- من الارتجالية قيامها أو فرضها بالقوة!

المؤسف أن الأستاذ/حسين الجابري - رحمه الله - كان ضحية لنضوجه الفكري والوطني المبكر، لذلك كان نزيل سجون وطني في عهد الاستعمار وفي عهد الاستقلال، ولقد عانى من ذلك نفسياً الكثير، ومما شاهده من مآسٍ الاحتراب بين الرفاق، وحدت الثورة بينهم، وفرغتهم السلطة ومغرياتها، وابتعادهم عن الوازع الديني، والرادع الأخوي الذي جمع بينهم في ساحات النضال!!

فما أحوجنا (اليوم وغداً) لحكمة ذلك الرجل (قصير القامة بعيد النظر راجح العقل!) الأستاذ حسين الجابري (أبا ذر) المناضلين اليمنيين بحق الذي ينحدر من أسرة فقيرة من متاع الدنيا، غير أنها غنية بإيمانها بالله تعالى، وبتعليم الرعيل الأول (كتاب الله القرآن الكريم)، فقد كان -رحمه الله- يكتفي(بقرص الروتي، وصحن الفاصولية، وقلص الشاهي)، ويحمد الله على ذلك صاحب (النعمة على الإنسان بالصحة والقوة)، وليس (بلحوم المندي، وأنواع السمك، وألوان الفواكه، وسكن الفلل الفاخرة، وكنز الأموال، واغتناء السيارات الفارهة.. الخ، كما كان يقول لنا بسلوكه قبل لسانه،فلا غرابة أن فقد مؤخراً القدرة على التركيز!... ذلكم بإيجاز شديد جداً جداً هو (أبو ذر/ حسين الجابري) طيب الله ثراه، وعظم الله أجر أسرته وأجرنا فيه جميعاً، وجمعنا الله به في الجنة.. إنه تعالى هو الذي قدر ما كان وما سيكون!، فلله الحمد في الأول وفي الآخر ، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.