على هامش كتاب الباحث والمؤرخ الأميركي توم لاشنيتز .. أردوجان.. الفهم الوسطي للإسلام ..

> «الأيام» عن «الشرق الأوسط»:

> ما هو الثمن الذي سيطلبه رئيس وزراء تركيا مقابل تقديم الخدمات للغرب؟ الدخول إلى جنة الاتحاد الأوروبي لا أكثر ولا أقل. ولكن هناك رهاناً أكبر لكل هذه العملية: هو أنه إذا ما أصبحت تركيا عضوا فيه فإن الاتحاد الأوروبي سوف يمتد لكي يصبح على حدود إيران والعراق وسورية والعرب. وستصبح تركيا الأصولية المعتدلة عندئذ رأس الحربة ضد الأصولية الراديكالية في كل العالم الإسلامي.

ما الذي نعرفه عن طيب رجب أردوغان، قائد تركيا الشاب حاليا؟ هذا ما يحاول أن يشرحه لنا مؤلف هذا الكتاب. فهو يستعرض تاريخ ولادته ونشأته وبيئته الأولى والأحداث الشخصية والعامة التي مر بها وأثرت على مسيرة حياته, وصنعت منه القائد الناجح الذي نعرفه. ولد أردوغان في أحد الأحياء الشعبية الفقيرة بمدينة اسطنبول عام 1954. ويبدو أن والده كان قاسيا معه إلى حد ما، فقد أجبره على ترك هوايته المفضلة (لعبة كرة القدم) لكي يصبح إمام جامع. ولكنه انخرط في السياسة بعدئذ وفي صفوف الأصوليين ونجح بسرعة، إلى درجة أنه أصبح عمدة لمدينة اسطنبول عام 1994، أي وهو في الأربعين من عمره، وقد انتهج فيها سياسة إصلاحية واسعة، حيث أدخل المترو وحسّن نظام المجاري ونظام النقل والباصات... إلخ. وهكذا أصبحت اسطنبول في عهده مدينة حديثة ونظيفة فعلا. ولكنه ارتكب خطيئة عندما قرأ قصيدة متطرفة لأحد الأصوليين الأتراك في أحد الاجتماعات العامة بالمسجد، فقد أنشد بكل حماسة قائلا: «المساجد ثكناتنا، والمنارات حرابنا، والقباب قبعاتنا، والمؤمنون جنودنا!».

وعلى إثرها سجنوه أربعة أشهر وحرموه من حقوقه السياسية لفترة من الزمن. ولكنه خرج من السجن متغيرا وأكثر عقلانية وتقدمية، وأصبح أقل تطرفا من الناحية الأصولية، بل وراح يعتقد أن الطريق الصحيح، طريق المستقبل، هو للمصالحة بين الإسلام والحداثة، وليس للتعصب والتزمت والانغلاق على الذات. ولذلك فعندما أصبح رئيسا للوزراء عام 2003 راح ينتهج سياسة انفتاحية على الغرب وبخاصة على الاتحاد الأوروبي. وقد ألغى عقوبة الإعدام وأعطى الأقليات حقوقا موسعة، وزاد من حرية التعبير بدلا من أن ينقصها على عكس ما يفعل الأصوليون العرب أو الإيرانيون، ثم نجح في تدشين نهضة الاقتصاد التركي. ولذلك فإن قادة أوروبا الذين كانوا خائفين منه أثناء وصوله إلى الحكم راحوا يعجبون به ويغيرون رأيهم. كما راح يصالح تركيا مع جارتها اللدودة (اليونان) إلى درجة أن هذه الأخيرة أصبحت تدافع عنه وعن دخول بلاده إلى الاتحاد الأوروبي. وأثبت أردوغان بذلك أن الفهم العقلاني الوسطي للإسلام هو الحل الوحيد للمجتمعات العربية والإسلامية قاطبة وليس التعصب الأعمى على طريقة بن لادن وبقية المتطرفين العتاة. كما أثبت أن الإسلام يمكن أن يتصالح مع الحداثة والتطور إذا ما فهمناه جيدا.. فالإسلام هو دين العقل والبصيرة أولا وأخيرا.

ومؤخرا تجرأ أردوغان على تحدي الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس (شوشو الغرب) علنا في دافوس! وقبلها تجرأ على مهاجمة إسرائيل بعنف إبان حربها المجنونة والإجرامية على غزة. والسؤال المطروح: لماذا فعل ذلك؟ والجواب- بحسب رأي البعض- هو لأنه يحضر نفسه للعب دور كبير في المنطقة. هذا لا يعني بالطبع أنه لا يتخذ مثل هذه التصرفات عن اقتناع شخصي وشعور إسلامي حقيقي. فالواقع أنه غيور على أمته الإسلامية ويدافع عنها، ولم يتخل عن مبادئه الأساسية.. ولكن رجال السياسة الكبار يوظفون عادة حتى العواطف والمشاعر الإنسانية، أو قل يستثمرونها سياسيا. وهذا شيء طبيعي ولا غبار عليه ولا عيب فيه، فالتاريخ لا يتقدم إلى الأمام إلا بهذه الطريقة. ومهما يكن من أمر فإن كل المخاوف التي أثارها وصول الأصوليين الأتراك إلى سدة السلطة قبل بضع سنوات تكشفت عن سراب أو شيء يشبه السراب. فقد اكتشفنا- مدهوشين- أن الأصولية التركية أكثر حضارية ووسطية واعتدالا من الأصولية العربية والأصولية الإيرانية على حد سواء. واكتشفنا أنها قادرة على استيعاب اللغة السياسية الحديثة وممارستها في المحافل الدولية بعد فهم موازين القوى جيدا.. ولذلك أسباب عديدة ليس أقلها أن تركيا تحتوي على نخب علمانية وشرائح تحديثية قوية لا يستهان بها. فمصطفى كمال أتاتورك لم يمت ولم يدفنه أردوغان، وإنما حوره وأجرى عليه بعض الرتوشات الإسلامية وخفف من استغرابه المطلق. وهكذا أصبحنا في مواجهة أتاتورك جديد ولكن بوجه إسلامي هذه المرة. ولم يحدّث أحد تركيا بعد مصطفى كمال أتاتورك مثلما حدّثها طيب رجب أردوغان. وعلى هذا النحو أصبح أردوغان مقبولا غربيا ومقبولا عربيا وإسلاميا، وأكاد أقول عثمانيا. ولأنه جمع في شخصه كل هذه الصفات دفعة واحدة- لأنه صهر في ذاته تركيبة موفقة بين الأصالة والمعاصرة أو بين الإسلام والحداثة- فإنه أصبح اللاعب الأكبر على المسرح الإقليمي لمنطقتنا. وهو مرشح لأن يلعب هذا الدور بقوة متزايدة في الأيام والأسابيع القادمة.

الجميع بحاجة له الآن لإطفاء النيران المشتعلة وما أكثرها! وأولها بالطبع النار الإسرائيلية- الفلسطينية بعد كارثة غزة الجريحة. فالغرب يعتمد عليه لإقناع متطرفي حماس بإيجاد تسوية مع إسرائيل، كيف؟ عن طريق مصالحتهم مع محمود عباس أو على الأقل ترك هذا الأخير يتفاوض مع إسرائيل بحرية للتوصل إلى حل معقول. قد لا يستطيع إقناعهم بالاعتراف المباشر والصريح بوجود إسرائيل في المنطقة، ولكنه يستطيع إقناعهم بعقد هدنة طويلة جدا تشبه السلام الأبدي أو النهائي تقريبا. ويمكن العثور على تخريجات لتبرير ذلك في الفقه الإسلامي الكلاسيكي.. وبالتالي يمكن خلع المشروعية الدينية على عمل كهذا، على الرغم من أن النفوس مشحونة إلى أقصى الحدود ضد الإسرائيليين واليهود بعد مجزرة غزة. هذا ما يقوله المحللون الاستراتيجيون هنا في الساحة الباريسية، نقصد أولئك المطلعين على شؤون العالم العربي والإيراني والتركي. فأردوغان بعد كل المواقف التي اتخذها لصالح القضية الفلسطينية أصبح الوحيد القادر على أن «يمون» على حماس وغير حماس أيضا. ويمكن للقوات التركية أن تحرس الحدود المصرية- الغزاوية بالإضافة إلى المصريين لأنها إسلامية مقبولة على عكس القوات الغربية التي رفضتها مصر بشكل قطعي.

ولكن هناك نارا أخرى سوف تكلف تركيا بإطفائها هي النار الشيعية- السنية سواء على الجبهة اللبنانية أو الجبهة العراقية بعد رحيل الأميركيين. فالرئيس أوباما متعجل لسحب قواته لأسباب مصرفية محضة، ولأنه يريد إنعاش الاقتصاد الأميركي وإخراجه من الأزمة الرهيبة التي عصفت به وبالعالم كله. ومعلوم أن تركيا هي وحدها القادرة على تبديد مخاوف العرب من تشكل محور شيعي وهمي أو حقيقي يضم إيران والعراق وسورية ولبنان بقيادة حزب الله.

وقد نجح أردوغان- إلى حد كبير- في سحب سورية من تحت المظلة الإيرانية، بل وكاد أن يحل مشكلة الجولان لولا أن اسرائيل خربت عليه الموضوع في آخر لحظة بحربها الوحشية على غزة. ويقال إنه هو الذي حيّد العناصر المتشددة في القيادة السورية والممانعة للصلح مع إسرائيل. ولكن يبدو أن الرئيس ساركوزي لعب دوره أيضا في هذا المجال. نقول ذلك وبخاصة أن محمود أحمدي نجاد سوف يترك المسرح قريبا لكي يحل محله رئيس عقلاني غير مهلوس لاهوتيا، رئيس مهضوم إقليميا ودوليا.

لماذا يكلف الغرب أردوغان بلعب كل هذه الأدوار دفعة واحدة؟ لأنه يجمع في شخصه ثلاث ميزات أساسية: الهيبة الكبرى للسلطنة العثمانية التي هيمنت على العالم العربي لقرون طويلة، ولأن بلاده أحد أركان حلف الأطلسي، ثم لأنها أحد أصدقاء إسرائيل الأساسيين في العالم على الرغم من كل المظاهر الخادعة.. ما هو الثمن الذي سيطلبه رئيس وزراء تركيا مقابل تقديم كل هذه الخدمات للغرب؟ الدخول إلى جنة الاتحاد الأوروبي لا أكثر ولا أقل. ولكن هناك رهانا أكبر لكل هذه العملية، هو أنه إذا ما أصبحت تركيا عضوا فيه فإن الاتحاد الأوروبي سوف يمتد لكي يصبح على حدود إيران والعراق وسورية والعرب. وستصبح تركيا الأصولية المعتدلة عندئذ رأس الحربة ضد الأصولية الراديكالية في كل العالم الإسلامي. وهكذا تُداوى الأصولية بالأصولية. وعندئذ يتحقق مكر التاريخ، كما يقول هيغل. ولا يوجد علاج آخر أصلا بانتظار أن يحصل التنوير الإسلامي الكبير المنتظر، وتعم العقلية الحضارية شعوب المنطقة بأسرها. ألم يقل شاعرنا العربي الكبير أبو نواس: وداوني بالتي كانت هي الداء؟!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى