نجم أسطوري ومدرب متواضع

> بيونس آيريس «الأيام الرياضي» عن الكفاح العربي :

> لم يجد مدرّب المنتخب الأرجنتيني النجم الساحر دييغو مارادونا أعذارا مقنعة أو حتى مفبركة يبرر بها سقوط فريقه المذلّ أمام المنتخب البوليفي في تصفيات كأس العالم الأميركية الجنوبية بنتيجة 1­-6.

وهو لم يلق اللوم على الارتفاع الشاهق لملعب العاصمة «لاباز» ولا حتى على الحظ العاثر, فاكتفى بتصريح مقتضب تحمل خلاله المسؤولية مع فريقه حين قال: «لم نفعل شيئا مما كنّا نرغب في صنعه هنا».

مع هذا السقوط الكبير, انتهى شهر عسل المدرّب النجم مع المنتخب الفائز بكأس العالم مرّتين آخرها وأهمها في العام 1986 حين كان مارادونا نفسه يقود الـ«البي سيليستي» لكن مع مفارقة بسيطة, هي أن النجم الأكبر والأوحد ربما على أرض الملعب كان يومذاك على ارض الملعب, وفي مباراة الأسبوع الماضي كان على مقعد التدريب خارج خطوط الملعب البيضاء.

مارادونا بدأ مسيرته المنتظرة مع الفريق الأبيض والأزرق بمباريتين وديتين انتهتا بتحقيق فوز عريض على كلّ من اسكتلندا وفرنسا, في حين استطاع في أولى مبارياته الرسمية والتي أتت أيضا ضمن إطار التصفيات الأميركية الجنوبية المؤهلة لكأس العالم أن يحقق فوزا كبيرا على ضيفته فنزويللا بنتيجة 4- ­صفر.

ومع هذه الانتصارات الثلاثة توقع البعض أن تكون مسيرة المدرّب ناجحة كما مسيرته الكروية. واعتقد الجميع أن الانتصار سيكون مرافقا له في ترحاله إلى العاصمة البوليفية لاباز. لكن السقوط الكبير كان مفاجئا وأعاد خلط الأوراق في ترتيب فرق هذه التصفيات وعادت الصيحات والانتقادات تعلو بوجه دييغو مارادونا كما كانت طوال حياته الاحترافية وما بعدها. فهل انتقلت لعنة مارادونا إلى منتخب بلاده ؟ وهل يسقط المنتخب المرشح للفوز بكأس العالم المقبلة على أعتاب التصفيات الأميركية الجنوبية ؟ وما هو دور المدرّب في كلّ ما حدث اليوم وما يمكن أن يحدث في المستقبل الكبير؟

من المعروف أن الأرجنتين تعيش على إيقاع كرة القدم 365 يوما في السنة. وهذه الرياضة لم تكن يوما حدثا عاديا في حياة الشعب الأرجنتيني فهي كانت دوما لسان حاله ومتنفسه السياسي والاجتماعي في وجه خصومه الأميركيين والأوروبيين. ألم يكن الانتصار الكبير للأرجنتين على انكلترا في كأس العالم المكسيكية في العام 1986 ثأرا مباشرا من الغزو المتجدد لجزر المالوين في العام 1983؟ هذا الانتصار اعتبره آنذاك مارادونا نصرا إلهيا من خلال يد الله التي ساعدته في تسجيل هدف مشكوك فيه قبل هدف اعتبر الأجمل في تاريخ كرة القدم العريق والطويل. أمّا في أميركا الجنوبية فالصراع كان دائما وأبدا مع الجار الأكبر البرازيل التي تعيش هي الأخرى على إيقاع كرة القدم.

وهكذا ندرك مدى الجرح الذي تسبب به سقوط الـ«البي سيلستي» في المجتمع الأرجنتيني وكثرة الانتقادات التي وُجِهَت فجأة إلى مارادونا. ذلك أن السقوط ممنوع والخسارة لا مكان لها عند شعب يدرك أن منتخب بلاده يملك تشكيلة قوية كان من المفترض أن تفوز بكأس العالم في آخر مشاركتين لها, ولكن الحظ العاثر كان بالمرصاد تماما كما كانت الحال في العام 1990 حين سقطت الأرجنتين أمام ألمانيا بهدف وحيد من ضربة جزاء مشكوك في صحتها. منتخب متعطش للفوز والثأر وهو تمادى قليلا في تقدير قدراته وقدرات مدرّبه, فكان السقوط الكبير والخسارة المذلة التي هي الأقسى للأرجنتين منذ ستين عاما والأقوى منذ العام 1993 حين سقط هذا المنتخب أمام كولومبيا بخماسية نظيفة.

فالعنجهية المفرطة والثقة العالية وغياب الخبرة الحقيقية للمدرّب إضافة إلى الارتفاع الشاهق الذي وصل إلى 3650 مترا عن سطح البحر, أدّت مجتمعة إلى هذه النتيجة الحتمية القاسية لكن الواقعية. ومن هنا سقوط مارادونا الحكيم في مؤتمره الصحفي حين اعتبر أيضا أن كلّ هدف بوليفي كان خنجرا اخترق قلبه, في إشارة غير مباشرة إلى تحمله جزءا كبيرا من المسؤولية. فالتماسك بين الخطوط لم يكن موجودا أبدا خصوصا في الوسط والدفاع, ما أدّى إلى وجود ثغرات كبيرة استفاد منها المنتخب البوليفي المتواضع صاحب المركز ما قبل الأخير في التصفيات لتسجيل أهدافه الستة، إضافة إلى عدم التنسيق كانت الأعصاب مشدودة للغاية لدرجة أن الأرجنتين أكملت المباراة بعشرة لاعبين بعد طرد أنخل دي ماريا في الدقيقة الـ 63 بعد 9 دقائق من دخوله بدلا من ماكسيميليانو رودريغيز.

هذه الأخطاء التكتيكية والنفسية غير مبررة مع منتخب يملك طاقات استثنائية أبرزها على الإطلاق ليونيل ميسي لاعب فريق برشلونة الأسباني, الطفل الذهبي الآخر والذي اعتبره مارادونا خليفته الحقيقية في ملاعب كرة القدم. وها هي الأرجنتين صاحبة المركز السادس في تصنيف الاتحاد الدولي للعبة خلف البرازيل الخامسة في وضع حرج في التصفيات الأميركية الجنوبية التي تجري على طريقة الدوري بعد أن تراجعت إلى المركز الرابع بعد اثنتي عشرة مرحلة برصيد 19 نقطة خلف الباراغوي المتصدّرة والبرازيل الثانية وتشيلي الثالثة مفاجأة هذه التصفيات. والمركز الرابع للأرجنتين هو الأخير المؤهل تلقائيا إلى النهائيات في جنوب أفريقيا في حين يخوض الخامس مباريات فاصلة عادة ما تكون سهلة, وبعد هذا الفصل العاثر في تاريخ كرة القدم الأرجنتينية والانتقادات المبرّرة للمدرّب الصاعد توجهّت الأنظار ومن الآن إلى حزيران المقبل حيث يخوض المنتخب الأبيض والأزرق مباراة حاسمة له ولمدرّبه في التصفيات أمام كولومبيا في العاصمة الأرجنتينية بيونس أيريس. فإمّا الفوز وحجز بطاقة التأهل وإما السقوط والدخول في دوّامة تغيير المدرّب أو إقالته أو في أحسن الأحوال توجيه أقسى الانتقادات له. هذه الانتقادات كانت السلاح الأوحد الذي استعمله مارادونا في مسيرته في وجه المدرّبين السابقين الـ«ألبي سيليستي» بحيث لم يكن يتوانى عن توجيه أقسى التعبير لكل من يخطئ صديقا كان أم غير مقرّب. وهو كان دائما ضمير الشعب في ما خصّ المنتخب يرتاح لآرائه ويقتنع بتحليلاته ويسير بها بكل راحة واطمئنان. لكن الغريب أن هذا النجم الحكيم والمحب لبلده وشعبه ولعبته المفضلة لم يقنع أبدا في مسيرته كمدرّب لا في منتصف التسعينيات من القرن الفائت ولا اليوم في محاولته المتجددة للتدريب.

في العام 1994 كانت له تجربة قصيرة مع فريق ماندييودي كوريانتس وبعدها بعام مع فريق متواضع آخر هو رايسنغ كلوب دي أفاليندا, وخلالهما لم ينجح ولم يفشل بكل معنى الكلمة ولكنه لم يكن مارادونا الملاعب, مارادونا النجم الكبير الذي اختاره محبّو كرة القدم في العالم أجمع أفضل لاعب كرة قدم في القرن العشرين. اختيار لم يقنع أبدا أو بتعبير آخر لم تستهضمه الإدارة العليا لاتحاد كرة القدم في سويسرا فتمّت تهمة هذا الاختيار من خلال تقسيم جائزة أفضل لاعب في القرن العشرين إلى جزأين, الأول لمارادونا والثاني للأسطورة البرازيلية بيليه الذي ظلّ قريبا من دوائر كرة القدم العالمية بخلاف مارادونا الثائر الأبدي الذي وجد ملجأه في الكوكايين مما أثار فضائح لا عدّ لها. ولولا مساعدة صديقه فيدل كاسترو لكان مارادونا اليوم في عالم الأموات بعد أن دخل في غيبوبة الموت أكثر من مرّة. وهو وجد اليوم في مهنة التدريب ملاذا لتنفيس غضبه الأزلي من دون أن ينجح فعلا في مهمّته التي تلقّت ضربة قاسية على ارتفاع 3650 مترا عن سطح البحر. هذه النقطة هي فعلا لصالح المدرّب النجم فبوليفيا وإلى جانبها الإكوادور كادتا أن تحرما اللعب على أرضهما في المنافسات الدولية بسبب الارتفاع الشاهق لملاعبهما, حيث تقلّ نسبة الأوكسجين ما يسبب التعب الشديد والإرهاق لكلّّ المنتخبات الزائرة ما يسهم إلى حدّ كبير بخسارتها غير المبررة في أوقات كثيرة. وهذا ما يجب أن يتنبه له المنتخب الأرجنتيني في رحلته إلى الإكوادور في التاسع من شهر يونيو المقبل في أسبوع حاسم للألبي سيليستي. موعد سيكون مرهقا للجميع وخصوصا للاعبي المنتخب الذين سيكونون في وضع لا يُحسدون عليه بعد موسم طويل مع فرقهم الأوروبية والأرجنتينية ما يرتب هما إضافيا على لائحة مارادونا الطويلة والمعقّدة.. هل ينجح المدرّب في الامتحان العصيب ويتجاوز المطبات القاتلة كما فعل دائما في مسيرته الكروية أم أن السقوط الكبير في الثلث الأوّل من حزيران سيؤدي إلى طرد المدرّب ودخوله مجددا في دوّامة العواصف الإعلامية والاجتماعية بعدما غاب عن صفحات الفضائح لفترة لا بأس بها بعد تعافيه من آفة تعاطي المخدرات.

من يعرف مسيرة اللاعب وبعدها النجم وصولا إلى المدرّب, يُدرك أن الحياة لم تكن عادلة معه في أوقات كثيرة. فهل ينعكس هذا على مسيرة المنتخب فيخرج من تصفيات أميركا الجنوبية بعدما كان أحد أبرز المرشحين للفوز باللقب في العام 2010؟.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى