هوس المناصب

> طه حسين بافضل:

> الوصول إلى كرسي المسؤولية المفترض فيه أن يكون عبئاً ثقيلاً على من تحقق له ذلك، فالمسؤولية صغرت أم كبرت الأصل فيها أنها تكليف أكثر منها تشريف، وتعد مغرما أكثر منها مغنما وفيدا.

إنها تجربة يحسن بمن استوعب مقتضياتها وملك أدواتها وخبر مداخلها ومخارجها القيام بها والسعي لبذل مزيد من الجهد للوفاء بحقها، وهذا يتطلب ممن وقع عليه الاختيار أن يغير نمط حياته وسجل عاداته نحو مزيد من الاندماج بين أفراد المجتمع، وتلمس مواضع النقص والخلل التي ترتبط بموقعه الوظيفي الذي كلف به، ليقوم بواجبه بحسب الإمكانات المتاحة والوسائل الممكنة، وصولاً إلى المساهمة الفاعلة في تدعيم أركان الوطن وتقوية جدرانه وإعلاء بنيانه.

إلا أن هناك نماذج ممن ولّي المسؤولية أو الوظيفة العامة- في هذا البلد المغلوب على أمره - نظراً لانتمائه الحزبي أو مكانته الاجتماعية والطبقية، التي تجاوزها ممن هم أفضل منه علماً وخبرة ومعرفة، لا يعرف قدر نفسه ولا يتواضع لمن هم أجدر منه وأعلم وأفهم لمختلف القضايا التي تدور في بيئته التي تحت نطاق مسؤوليته، بل للأسف تجده يتكبر ويتغطرس ويرتفع ويغتر فيعجب بنفسه فتمقته العقول وترفضه القلوب.

هذا النموذج سيء جدا، فهو لا يعبأ بما يقوله الناس خصوصاً خيرة المجتمع وكوادره المجربة وممن لا ينتمي لحزب ولا يوالي أو يعادي على أساس ضيق أو مناطقي، بل هم من الوطنيين الشرفاء الذين يأملون رقيا وتقدما لأمتهم، وكان الواجب عليه أن يستمع لنصائحهم ونقدهم وينظر في أمره بإنصاف وتعقل وروية دون هروب من الواقع أو تنصل من المسؤولية، بل يواجه ذلك بكل رحابة صدر وسماحة نفس وترفع عن الدنايا والمحقرات التي تخدش سيرته الذاتية، فلا استهزاء أو احتقار للآخرين، ولا عبث بأموال الأمة وثروتها، ولا عنت يصيب الصالح من الناس خصوصا فيضغط عليه بقراراته المتعجرفة ليتغير ويصبح فاسدا مثله، فينتقل من النزاهة التي كانت تعمر قلبه وجوارحه إلى الفساد والتحايل واستعمال الرشوة ليحصل على حقه الذي سلبه إياه هذا المسؤول الطائش، وهنا يتوغل ويتجذر الفساد في المجتمع.

ومنهم من لا يرعوي عن غيه وطيشه ولو توالت عليه الاحتجاجات ولطخت سمعته ودست في التراب، فهو لا يهمه ذلك بقدر ما يهمه كم سيكسب من هذا المنصب حال وجوده فيه، وكم سيرصد في البنك من الحسابات والأسهم، شعاره كل إناء بما فيه ينضح.. وليت هذا المذكور نظر وتأمل إلى حال المسؤولين في الغرب والبلاد المتقدمة ليرى أوراق استقالاتهم جاهزة عندما يتسامع الناس بهم في قضية أخلاقية أو تهمة وجهت إليهم ولو لم يتم التحقق فيها، فلا مجال لديهم للصبر على حال من شك المواطنون فيه من إخلاصه وعطائه لوطنه.

المسؤول الواعي لوقائع الحياة ومجريات الأمور يحذر أن يجعل الناس يمقتونه ويبغضونه في الخفاء، ويضحكون ويتباسطون معه في العلن، بل ينبغي أن يتفطن أن هؤلاء الذين ينافقونه ويكيلون له دواوين المديح كذبا وزورا لن يقفوا إلى جانبه إذا تناوشته سهام العدالة وقيدته أغلال التهم، فلن يعدو أن يكون سجلا مضى وطوي، وتاريخ عفن من النصب والاحتيال وأخذ أموال الناس بالباطل والجور.

إنها خاتمة قد لا تجد منها إلا الاحتقار والتهتك والنسيان ، والمنطقي هو أن يبادر ببذل ما يستطيع من وقته وراحته وتفكيره لأجل هذا الوطن العزيز على قلبه، فيملأ سجله بالإنجازات والنجاحات الصادقة غير المزيفة ليصبح ذكرا خالدا في مخيلة الناس، ويصبح معه وبه الوطن عزيزا شامخا في النفوس.

وقد قالوا: إن القلوب لا تبقى لوال لا ينعطف إذا استعطف، ولا يعفو إذا قدر، ولا يغفر إذا ظفر ولا يرحم إذا استرحم، فكيف بمن امتلأ حقدا وغلا وهما وغما على الآخرين؟! فهو يخشى منهم على نصبه ويحتقن في دخيلة نفسه تبرم وقلقا وضيقا كلما رأى أحدهم ينتقده أو يشرشحه على أوراق الصحافة ومواقع الانترنت، ربما كان هذا المنتقد على حق فيما قال وكتب، ولكن هذا المهووس بحلاوة المنصب قد طمست عيناه أن تريا الحق فتتبعه والباطل فتجتنبه، بل قد صور لنفسه صورة من العظمة والكبرياء والغطرسة حجبته عن أن يرتقي بنفسه ويغير من حاله، ويحذر كل الحذر من سوء مآله وتغير أحواله كما هو شأن العقلاء الذين يتتبعون الصواب والحكمة أينما كانت، ليتلمسوا مواطنها ويتعرضوا لنفحاتها لتسمو نفوسهم وتعلو رتبهم وتكثر إنجازاتهم لا يهابون دواهي الزمان ولا نكباته ومصائبه حالهم كقول القائل:

وإنا على عض الزمان الذي ترى

نعالج من كره المخازي الدواهيا

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى