مشايخ الغناء اليمني: محمد جمعة خان..

> فضل النقيب:

> محمد جمعة خان من الذرى السامقة في الغناء اليمني وصاحب مدرسة فريدة في التلحين والغناء، جمع إلى الموهبة الأصيلة الدأب والمثابرة والتواضع وتقصي الجديد وترقية الذائقة الفنية لتلاميذه ومجايليه.

وقد صال وجال حتى طبقت شهرته اليمن والجزيرة العربية وشرق إفريقيا، وكان مغرماً بالأسفار وإقامة الحفلات في الخارج بمصاحبة فرقته التي كان حريصاً على تدريبها وتجويد عملها حسب الأصول، وهو أول من أجاد النوتة الموسيقية وكتب بها الألحان على خلاف غالبية فناني عصره الذين كان أكثرهم بالكاد يقرأون الأبجدية، فهم يغنون على السماع والمشافهة والتقليد.

ولد محمد جمعة عبدالرزاق خان 1903م لأب هندي كان يعمل «مدفعيا» في جيش السلطان عوض بن عمر القعيطي، وذلك في مدينة المكلا، أما أمه فكانت من دوعن واسمها فاطمة أحمد بهيان.. وقد انضم محمد جمعة في الخامسة عشرة من عمره إلى الفرقة الموسيقية السلطانية التي كانت تعرف بالفرقة العربية «الطرنبيطة» وتدرج في مراتبها حتى أصبح قائداً لها، ثم انتقل إلى الفرقة السلطانية الثانية (الهندية) إلى أن أحيل على التقاعد.. وقد نجح أثناء عمله في تعريب الفرقة الهندية التي بدأت تقدم الألحان الشعبية الحضرمية والتراث اليمني وكذلك الموسيقى العربية. ويمكن القول إن فناننا الكبير قد ترعرع في وسط فني خصب مكنه من التأهيل الفني رغم أنه لم يحز على تعليم موسيقي منتظم، ولكن الحياة والممارسات هي أعظم جامعة للموهوبين النجباء، فليس بالشهادات وحدها يرتقي البشر في مدارج الإبداع. وقد كان والده جمعة خان من عشاق الموسيقى والغناء ويقتني تسجيلات لكبار فناني الهند ومصر، وكان أخوته جميعاً يدورون في الفلك نفسه فشقيقه الأكبر أحمد عازف «هارموني» وله ألحان كثيرة أداها بصوت رخيم، وشقيقه عبدالله كان بارعاً في التوقيع على «الدف» وشقيقه الثالث عبدالقادر أجاد العزف على جميع الآلات الموسيقية العربية والنحاسية، أما شقيقه الأصغر سعيد فهو مشهور بالعزف على «الكلارنيت» وقد كان ملهمه وقدوته فنان حضرموت الكبير الذي يجمع الجميع على ريادته وسبقه سلطان بن صالح بن الشيخ علي هرهرة، وكان محمد جمعة خان يتكلم عنه بإجلال ويقر بأستاذيته وفضله.

يقول الأستاذ المؤرخ الحجة محمد عبدالقادر بامطرف:«كان الفنان محمد جمعة يمد لحن الأغنية وكلماتها بروح من عنده، يقيم به جسراً من البهجة والسرور يربط بين الحس الموسيقي لدى السامع وبين الفيض الفني الصادر عنه هو.

ولم يكن من أولئك الذين تنبو عنهم العين، ويندم على لقياهم النديم، ولم يكن من أولئك المغنين الذين يقيمون بينهم وبين المستمعين سداً منفراً من قبح المنظر وكثافة الطبع»، شهادة الأستاذ بامطرف تقول الكثير بأوجز الكلمات وأكثرها امتلاء بالمعنى.

الأستاذ محمد مرشد ناجي كتب:«كان محمد جمعة بارعاً بالعزف على العود ممتعاً بصوت جميل يقطر عذوبة ووضوحاً بحيث يستطيع المرء أن يكتب القصيدة التي يغنيها دون عناء أو مشقة، وقد مكنه كل ذلك من أن يصبح المطرب الوحيد الذي لا منافس له في ربوع حضرموت، وطارت شهرته إلى كل أنحاء اليمن والجزيرة العربية وإفريقيا.

وقد استطاع هذا الفنان المطبوع أن يصقل الغناء الحضرمي ويبعث فيه الحياة ثم ينشره ويمنحه الخلود».

وقد سجل في العصر الذهبي للأسطونات عدداً كبيراً من أغانيه منها ثلاثون أسطوانة لإذاعة عدن وأربعون أسطوانة لتسجيلات «مستر حمود» وستون أسطوانة لـ«عزعزي فون» واثنا عشرة أسطوانة لعيدروس الحامد، كما سجل في آخر أيامه مجموعة من أغانيه المحبوبة لإذاعة عدن.

لمحمد جمعة خان أسفارٌ كثيرة وسّعت شهرته وعظّمت جماهير مستمعيه وكانت رحلته الأولى إلى كينيا مع فرقته وبرفقته صديقه الذي لايفارقه ولا يستغني عنه عازف الكمان البارع الذائع الصيت سعيد عبدالله الحبشي، والرحلة الثانية كانت إلى الحبشة والصومال، ثم إلى جيبوتي، فالكويت، حيث سجل بعض الأغاني لأسطوانات «فون» الكويتية، ومن رحلاته المهمة تلك الرحلة التي قام بها إلى السعودية حيث أقام سنتين متنقلاً بين مدن الحجاز ونجد، وقد أبدع ألحاناً جديدة جاءت متأثرة بالألوان الحجازية والنجدية وسجل أسطوانات خاصة لمعجبين.

يقول الأستاذ عمر أحمد بن ثعلب الذي وضع كتاباً توثيقياً وتحليلياً لافتاً عن فناننا الكبير وذلك كما نقل عنه الأستاذ المرشدي حسب إشارته في المتن:«اهتم الأستاذ محمد جمعة بألوان الغناء الحضرمي ومنها الموشحة الحضرمية وكان يصبها قي قوالب توقيعية جديدة راقصة، وقد وفق كل التوفيق في إنتاج مجموعة كبيرة منها احتلت جماهيرياً مكان الصدارة بالنسبة لألحانه الهندية الوافدة، كما اهتم بالأناشيد الدينية فحوّرها وطوّرها وأدخل الآلات الموسيقية عليها».

هذا غيض من فيض عن هذا العملاق الذي لن يجود الزمن بمثله وظل حياته ناسكاً في معبد الفن زاهداً في ماعدا ذلك من متع الحياة، وقد كان موضع إجلال ومحبة وتقدير حيثما حل أو ارتحل، وكانت وفاته في 25 ديسمبر 1965.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى