الهرولة جنوبا والتسامح حينما يكون مع الماضي

> محمد علي محسن:

> التصالح والتسامح غاية سامية تستوجب من الجميع تجسيدها كقيمة تعد جزءاً من العدالة وليس كوسيلة آنية لتحقيق المنافع والمصالح الذاتية والسياسية الضيقة مثلما هو للأسف حاصل.

ومحصور هذا التسامح بفئة وجماعة ومناطق دون غيرها، القضية الجنوبية أيضاً ينبغي لها أن تكون مهمة وطنية ونضالية وأخلاقية وقيمية قبل أن تكون سياسية أو حقوقية أو لمجرد النكاية بالسلطة الحاكمة للبلد، قلنا هذا الكلام والحراك في مهده وأعدناه ثانية والشارع في ذروة زخمه وعنفوانه، وهانحن نذكر به اليوم من يحملون راية القضية الجنوبية كشعار وقيمة نبيلة، ولكن بوسيلة خاطئة ومشوهة للحق المراد إنجازه.

قلنا في تناولات عدة إن النفوس الكبيرة وحدها تعرف كيف تسامح؟ وفق مقولة لجواهر لال نهرو، وإن أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة بحسب قول للإمام علي رضي الله عنه، وكذا الحق الذي يعد الساكت عنه شيطانا أخرس مثلما هو حديث رسولنا وقدوتنا محمد عليه أفضل الصلوات والتسليم، فمهما التبس هذا الحق بالباطل أو سكت عنه طمعاً أو كرهاً فلا يجب أن نخسر أخلاقنا ومبادئنا بداعي الوئام مع الماضي أو في سبيل الحق المفقود والمسلوب المراد استعادته في الحاضر، ولو بفقدان هذه الأخلاق والمبادئ التي لم يفرط بها في أشد الظروف قسوة ومأساوية من هذه الوضعية القائمة في ظل لا وحدة ولا انفصال.

عندم ندعو للتسامح والوئام فلأننا نريد أن نؤسس وطناً يعيش فيه أبناؤه جميعاً بسلام واحترام، وعلى نقيض ذلكم الوطن الذي زخر بكثير من الصراعات والأخطاء الفادحة، وكذا الوطن الحاضر الذي هو نتاج وامتداد لتلكم الحقبة وويلاتها. من يعتقد أن المعاناة الماثلة في محافظات الجنوب ستدفعنا لتبني أفكار وسلوكيات منافية لقيمنا ومبادئنا وأخلاقنا الإسلامية والعروبية والإنسانية، فهو واهم ومخطئ، ولم يتعلم شيئاً من عبر ودروس التاريخ! من يظن أن الحق الجنوبي لا يمكن تحقيقه سوى بالاصطفاف الجهوي الجغرافي المقيت، مثلما يحاول البعض فهمه وتجسيده، فإنه بذلك يعيد صناعة وتسويق القضية الجنوبية وكأنها نسخة مكررة بقالب أوسع من ذاك الماضي المتصالح معه اليوم على حساب الحاضر والمستقبل المنشود.

لسنا في مقام الواعظ هنا أو المنتقص والمستريب من حق أبناء المحافظات الجنوبية في النضال والمقاومة من أجل حقوقهم المشروعة في كنف الدولة الواحدة أو خارجها، فكلاهما الوحدة والانفصال مشروعان سياسيان وإن اختلفنا حولهما، لكننا نجد أنفسنا بمكان الناصح لهم ألا تؤدي بهم الأوضاع الصعبة التي يعيشونها منذ عقد ونصف على كارثة الحرب المدمرة لشراكتهم أو وجودهم المعنوي والنفسي والوظيفي إلى تكرار الأخطاء القاتلة ذاتها لمسيرة دولة وتجربة وشعب في الجنوب، فبوسع أبناء الجنوب ابتكار طرق ووسائل نضالية وديمقراطية تليق بهم وبتاريخهم وبوجودهم وأخلاقهم وقيمهم المدنية والحديثة والإنسانية، دون ابتداع وتوسعة للأفكار والأدوات والخطاب يصعب الحديث عن القضية، دون خطاب ورؤية وفعل جدير بتعاطف وإقناع الآخر بعدالة القضية الجنوبية ستفضي كل هذه المسميات للاشيء فحتى الثورات والحركات المسلحة المناهضة للاستعمار أو النظم المستبدة عادة ما توائم خطابها السياسي مع مطالبتها العادلة.

دعونا نتصالح من أجل الحاضر والمستقبل وليس لمجرد النكاية بهما نرفع شعار التسامح مع الماضي، لا يعني طي صفحة مؤلمة ومحزنة من التاريخ مقدمة لفتح أخرى من الأزمات الاجتماعية، اصطفاف الجنوب لا يعني تفصيله على أساس الجغرافيا، بل يجب أن يكون وفق مقياس الحق والعدل والمواطنة وضد الظلم والباطل. الذين يرفعون قيم الوئام والعفو عليهم إثبات ذلك في سلوكهم نحو بعضهم ومع الآخر في جبهتهم قبل أي شيء، الهرولة جنوباً على هذه الشاكلة من الجموح فإن بدت في شكلها متصالحة الآن، لكنها حاملة بكل نذر الكوارث التي قسمت ومزقت لحمة مجتمع الجنوب، الأوطان مثل القضايا العادلة، فحينما تتولاها العواطف والانفعالات والأمزجة الشخصية فلا نتوقع غير الخراب والفشل، وعندما تقودها الحكمة والتفكير الجماعي مصيرها البناء والنجاح.. كل مآسي ونكبات الجنوب نتيجة التمترس خلف الجغرافيا، والأهواء الشخصية، لم نتعلم قط من تجارب الماضي ودروسه حقيقة أن الهرولة مفضية للكارثة وأن التمسك بالجغرافيا للسياسي يعني النفي من التاريخ.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى