بالصيني.. والهندي.. والعربي

> برهان أحمد إبراهيم:

> قديماً، ذهب اليونانيون إلى القول:«.. إن المفكر لا يفكر انطلاقاً من نيات وإرادة طيبة، وإنما بفعل قوى تضغط عليه وتدفعه نحو التفكير».

التفكير وإن كان هو العملية العقلية الأرقى، إلا أن هناك عمليات أخرى تسبقه، وتفضي إليه، فمثلاً، الإحساس بضغوط الواقع وتحدياته يؤدي إلى عملية الإدراك، أي إدراك تلك الضغوط، لتعقبها عملية عقل تلك الضغوط أي معرفتها، لتبدأ بعدها عملية التفكير في كيفية مواجهة الضغوط والتحديات، وفي وضع الخطة، وتحديد الوسائل اللازمة للتغلب عليها، والخروج من دائرة الخطر، إلى فضاءات التغيير والإبداع.وبتلك الفاعلية العقلية يزداد رصيد خبرتنا العملية والوجدانية ثراءً.

لذلك، فإننا إن أردنا الإبداع والتغيير، فلابد أن نفكر، ولكي نفكر، فعلينا أن نعقل، وحتى نعقل، علينا إدراك ما حولنا.. لأن الإدراك الحسي هو الذي يحول الأشياء إلى أفكار معنوية، يستقبلها العقل، ويضفي عليها المعاني.. وعن تلك الملكات المتدرجة (إدراك حسي خارجي، وعمليات عقلية داخلية، فتفكير) تجلت براعة الإنسان في التفكير، ليحقق انتصاره في معركة البقاء والارتقاء، وبخاصة عند اشتداد الضغوط، وتفاقم الأزمات، وتصاعد التحديات.

الهند، مثال حاضر على ذلك، إذ تجلى تفكيرها العبقري، وهي قاب قوسين أو أدنى من الكارثة، لتتحول إلى أكبر اقتصاد عالمي، بعد أن كانت على حافة الانهيار؛ بلد مفلس لا يمتلك من احتياطي النقد الأجنبي، إلا ثمن ما يكفي إنارة البلاد لمدة أسبوعين..!! ولا تجد حكومته مفراً من إرسال حمولة طائرة من احتياطي ذهبها، رهناً إلى لندن نظير قروض من الغرب..(للاطلاع، انظر؛ الفيل والتنين: روبين ميريديث، عالم المعرفة، (359)، يناير 2009م، ص 57/56).. وتحت شدة ضغوط الوضع الخطر، وأمام جسامة التحديات، تعاظم إحساس وإدراك القيادة السياسية الهنديةبمسؤوليتها تجاه أمتها، فتنامت فاعليتها العقلية، وتألقت بتفكيرها الألمعي، لتبدأ إصلاحاتها التاريخية في مايو 1991م، التي لم تنجح في تجنيب الهند نهاية بشعة فقط، بل ووضعتها اليوم كخامس أكبر اقتصاد في العالم.. ومن قبل الهند؛ الصين التي استطاعت وبعد قراءة واعية لواقعها، التحول وفي خلال جيل واحد ، من وضعها كبلد متخلف اقتصادياً، إلى بلد يشكل رابع أقوى اقتصاد في العالم ...!

في مقابل نموذج مجتمعات الإنجاز والانتقال من أدنى إلى إعلى.. هناك مجتمعات الاستهلاك العربية.. فعلى الرغم من أنها تعد أكثر المجتمعات تعرضاً للانتكاسات والأزمات والضغوط، إلا أنها مازالت في سبات، فاقدة الوعي، غير مدركة ماهي فيه، وماحولها من تحولات تاريخية..؟! والسبب في هذا، هو أنها وطأت أعتاب العصر الحديث مصادفة، دون إرادتها، لذلك لم تحس بأية مسؤولية تجاه العصر، ولم تجد مبرراً لإدراك طبيعته وفقه متطلباته وتحدياته..! إضافة إلى أنها ابتليت بطبقة حاكمة أنانية، حرمتها أية قراءة واعية في إحداثيات الحداثة، لأن قضية تلك النخب هي تحقيق مفردات أجندتها العصبوية فقط.!!

وإذا كان تطور وعي المجتمع رهناً بقدرة ونجاح المجتمع في خلق إطار مؤسسي عقلاني الفعل، فإن هذا الانحطاط السياسي للأنظمة العربية، قد شكل عامل تقهقر للعقل العربي، ووأد للتفكير النقدي، مما أدى إلى اتساع الهوة التي تفصلنا عن العالم المتقدم.. فبدل أن تحفز تلك النخب، المجتمع على المشاركة والتسابق مع شعوب العالم في دروب الفكر، وفضاءات الإبداع والإنجاز، رأت أنه من الآمن لها وإحكاماً لسيطرتها الأبدية المطلقة، جعل المجتمع في حالة موت سريري، يخاف التفكير، ويتطير من التغيير، فإذا بالإبداع بدعة..! وإذا بالنقد فتنة..! وإذا بالخضوع طاعة..! وإذا بالجمود استقرار..! فكان أن عجزت مجتمعاتنا عن التغيير والابتكار، لتبقى لقمة في فم الأزمات، تمضغها ثم تبصقها، دون أن تحرك ساكناً، ليصدق عليها قول المتنبي:

من يهنْ يسهلِ الهوانُ عليه

ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى