القرآن ومعجزاته

> محمد حسين دباء:

> سنأخذ في هذه الحلقة الإيجاز في القرآن الكريم الذي هو من خصائص الأسلوب القرآني، والإِيجاز وهو التعبير عن المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة تؤدي الغرض من غير إخلال بالمعنى، والإِيجاز نوعان: إيجاز حذف وإيجاز قصر.
أما إيجاز الحذف فهو: إسقاط كلمة للاجتزاء عنها بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام، ومن أمثلة إيجاز الحذف قوله تعالى: “وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ” فإن الآية تشير إلى شيوع القول في أهل القرية، وأن القرية كلها تكلمت في ذلك، وقوله تعالى: “وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى”، ففي هذه الآية إيجاز حذف، وهو حذف الجواب كأنه قيل لكان هذا القرآن كذا وكذا... والحذف هنا أبلغ من الذكر لأن النَفْس تذهب كل مذهب في القصد من الجواب، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان.
وأما إيجاز القصر فهو: بُنْيَةُ الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف، وله أمثلة كثيرة في القرآن حتى أن الشيخ أبا زهرة رحمه الله قال بأن هذا النوع من الإيجاز لا تكاد تخلو منه سورة أو جزء سورة. ومن أمثلة إيجاز القصر: قوله تعالى: “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَآءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ”.
يقول الباقلاني: “هذه تشمل على ست كلمات، سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف.
وهي تشتمل على جملة وتفصيل وجامعة وتفسير: ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء، وإذا تحكم في هذين الأمرين، فما ظنك بما دونهما ؟ لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم والقلوب لا تقر على هذا الجور، ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد، وكفت في التظليم، وردت آخر الكلام على أوله وعطفت عجزه على صدره”.
ومن أمثلة إيجاز القصر، قوله تعالى: “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ” [56] وقد كان العرب يستحسنون بل يعجبون بحكمة قالوها ويعتبرونها قمة البلاغة لما فيها من إيجاز وهي قولهم “القتل أنفى للقتل”، وقوله تعالى: “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة” يفوق ما استحسنه العرب من أربعة أوجه:
الأول: أن الآية أكثر فائدة، ففيها من المعاني والفوائد ما في قولهم “القتل أنفى للقتل” وزيادة المعاني الحسنة التالية:
أ – إبانة العدل بذكر كلمة القصاص وأن القتل ليس تشفيًا من المقتول.
ب – الترغيب في القصاص بذكر الحياة وجعلها نتيجة له.
جـ - القصاص يشمل النفس والأعضاء بخلاف لفظ القتل، فإنه قاصر على النفس.
ثم إن مفاد الآية مستقيم على إطلاقه لأن الإنسان إذا علم أن اعتداءه على الآخرين يوجب القصاص منه ارتدع عن قتلهم أو جرحهم، فكان ذلك سبب حياته وحياة من أراد قتله، أما الحكمة فإن مفادها غير مستقيم على إطلاقه، فليس كل قتل أنفى للقتل كما تقول، بل إن القتل عدوانًا أدعى للقتل وليس أنفى له.
الثاني: الآية أوجز عبارة، فإن قوله تعالى: “الْقِصَاصِ حَيَاةٌ” تتكون من عشرة أحرف، أما قولهم “القتل أنفى للقتل” فيتكون من أربعة عشر حرفًا.
الثالث: الآية لا تكرار فيها بخلاف حكمة العرب ففيها تكرار لفظ القتل.
الرابع: الآية أحسن تأليفًا لملاءمة حروفها بعضها بعضًا، يقول الرماني: “وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فهو مدرك بالحس وموجود في اللفظ، فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد الهمزة عن اللام، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام”.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى