وداعا (أبو بكر)

> كتب /د. هشام محسن السقاف

> “يحتاج المرء لشقّ تمرة في حياته، فإن مات زرعوا على قبره نخلة”. (قول مأثور من الجزائر).
الفقيد أبو بكر
الفقيد أبو بكر

هناك فركة كعب بين الإنسان ودبيبه على الأرض، والموت الذي يواريه تحت الأرض، فالموت الحقيقة الكبرى في الحياه، حقيقة لا تقبل التأويل، واضحة وضوح الشمس في رابعه النهار، وقد تضيء حروف البحث في منعطفات حياة الراحلين المغيبين عنا قسراً بالموت، جوانب مخيفة لا نتنبه لها إلا بعد أزوف ساعة الرحيل، فتستغرقنا الحسرة والندم، حيث لا ينفع الندم، ولعل في تصرفات بعض الشخوص التي تكتفي بما قدمت يداها في فترة ما، أنها تجنح لمشيئة الحياة الهادئة غير عابئة بضوضاء الحياه وصخبها، قانعة بما كان منها من فعل إنساني سالف وراضية بما هي عليه دون أن تتعسف أطوار العمر.
سنجد مثل هذا في حياة فقيدنا الغالي أبو بكر علي علوي السقاف الذي تأهب مسرعاً للرحيل صبيحة الفاتح من سبتمبر الحالي، وهو على عتبة السبعين من العمر، ففي ميعة صباه كانت الحاجات الكالحة تجبر الفتى على ركوب الصعب ليبتني بكلتا يديه أفقه القادم، ولعل فيه ما يمتاز به كثيرون من أبناء الوهط، امتزاج الجينات القادمة عبر البحر إلى أرض (الأحباش) ما ينوع النسل ويقوي الأود، والذين يتذكرون صباوات (أبو بكر) الأولى ينقلون إلينا اعتداد الفتى بجهده وعمله كي يصنع ذاته، رغم أنه سليل بيت عريق لا تنقصه النعمة الدائمة.
وفي فورة شبابه تقوده قدماه إلى صنعاء ليلتحق بجيش الثورة الوليدة مدافعاً عن الجمهورية، كغيره من شباب الجنوب، وعندما يقع أسيراً بأيدي الملكيين، ضمن فوج من الجمهوريين، يتفرس في وجوه الأسرى قائد ملكي كان بمعية أحد سيوف الإسلام، وكان القائد من أبناء لحج، نزح إلى الشمال الملكي يوما ما وصاهر بيت الإمامة، وأصبح واحداً من قادتهم، وعندما توقف أمام فتانا الأسير استطاع بعد نظر أن يحدد منطقته، فسأله:
- أنت من لحج؟
- نعم
- من أين بالضبط؟
- من الوهط
- تعرف قاضي الوهط الحاج علوي؟
- جدي
- جدك ! أيش جابك إلى هنا تقاتل مع هؤلاء؟
- وأنت.. أيش جابك تقاتل مع هؤلاء؟.
ومع أن أسرته قد تلقت العزاء فيه، إلا أن (أبو بكر) قد أفلت بمعجزة من الموت المحقق على يد الملكيين، وعودته إلى الوهط لهوينة توقف عاد بعدها إلى صنعاء للدفاع عنها.
ولم تكن هذه التجربة التراجيدية الوحيدة التي ينسل فيها (أبو بكر) من بين مخالب الموت.
فقد حدث بعد سنوات أن استقر في طائرة (الموت) عام 1973م - إذا لم تخني الذاكرة - فأنزله أحدهم بعد إلحاح وإصرار منه لمشاركة (الكبار) رحلتهم، فانتقل أبوبكر إلى الطائرة الثانية المرافقة للطائرة التي أقَّلت الوزير الشهيد محمد صالح عولقي وكوكبة الدبلوماسيين من نخبة الوطن المثقفة، أمثال الثنائي عبدالباري ونور الدين قاسم ومثلهم آل السلامي، إخوة الشخصية الوطنية الكبيرة الأستاذ علي أحمد السلامي، والأديب محمد أحمد عبدالولي، والشهيد عبدالكافي وسواهم الكثير.
كانت حادثة (الطائرة) هي المرحلة اللاحقة في مضمار أبو بكر السقاف العملي، قبلها كان واحداً من شباب ثورة أكتوبر 1963م حتى الاستقلال الوطني في العام 1967م، ثم كان واحداً من عديدين تركوا بصماتٍ واضحة في تأسيس السياسة الخارجية لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وتقلد المناصب الدبلوماسية الكبيرة سواء في ديوان الوزارة أو في سفاراتها في باريس وتونس وموسكو وغيرها.
وشخصية فقيدنا الرائع أبوبكر علي علوي السقاف في العمل لا تختلف كثيرا عن طبائعه كإنسان في الحياة اليومية، الالتزام في العمل مع التواضع الجم، وميل لنسج علاقات إنسانية أكثر شفافية مع الزملاء والرفاق على طول المراحل، وسنتذكر حميمية الرجل ودفء مشاعرة رغم برودة (موسكو) تجاه الطلاب الدارسين هناك من أبناء (الوهط) و(لحج) أو سواهما، فلم تخل (شقته) بحي الدبلوماسيين من الطلاب أو الأصدقاء وزملاء العمل، تشاطره هذه (الروح) المنفتحة والكريمة عقيلته السيدة (أم علوي).
رحم الله فقيد (الوهط) والسلك الدبلوماسي اليمني الشخصية النضالية الفريدة والرائعة (أبو علوي) أبوبكر علي علوي السقاف.
كتبه/د. هشام محسن السقاف

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى